ثقافة

الشعر في الأزمة.. نتاج مأزوم وبلا هوية

أربعة أعوام مرت على الحالة التي تمر بها البلاد، حروب على جبهات عدة، أحزان متنقلة بين الجبهات والصدور، خيبات أمل وحسرات طويلة شح وغلاء واستغلال، فقد ولوعة وغياب. شحب وجهها قليلا إلا أن الروح السورية عصية على الوقوع في هاوية اليأس.
نظرية إعلاء قيمة الحياة رغم أسى الحروب التي ترددت مؤخرا في العديد من مناحي الحياة الثقافية في سورية، هي حقيقة عكسها الأدب وما انبثق عنه في مختلف المراحل التي مرت على سورية خصوصا الشعر، ولنا في الشاعر الدمشقي “نزار قباني” مثال جلي في هذا الأمر، حيث أصدر “قباني” مجموعته الشعرية الأولى “قالت لي السمراء” والبلاد رازحة تحت الاستعمار الفرنسي”1944″ ثم تلاها بمجموعة أخرى “طفولة نهد”، وهما المجموعتان الشعريتان اللتان ذهبتا نحو تشكيل المذهب العاطفي الذي عرف به “القباني” حتى بدا وكأنه شاعر منفصل عن واقعه حينها، وهاهو المسرح السوري يتوهج بعد نكسة الـ67 منطلقا نحو فضاءات بعيدة عما كان سائداً “بغض النظر إن كان ذاك التوهج هو حالة صحية أو العكس تماما” وهذا موضوع يحتاج للبحث في الظاهرة والأثر “وهاهي السينما تبدأ عقد السبعينيات الذي شهد حرب تشرين التحريرية بإنشاء مؤسسة عامة للسينما أخذت على عاتقها في بلد لا يكاد يخرج من حرب حتى يدخل أخرى أن تكون الصوت الرسمي الحكومي لهذا الفن الذي غير وجه العالم. وهاهي الرواية السورية تحقق حضورا لافتا بعد أحداث عام الـ82 الشهيرة رغم ابتعادها تماما عن تناول تلك الثيمة بغناها من الألم “احد أهم مناجم التراجيديا والكوميديا السوداء” أي الألم الذي بقي من آثارها بشكل مباشر، أقصد ثيمة الإرهاب الذي ضرب سورية حينها وما ألقاه ماضيا وما يلقيه اليوم من ظلال داكنة على المشهد السوري برمته، وبنظرة متأملة سنرى أن هجر الأدب والفن لتلك المرحلة دون أي طرح أو معالجة غيب حقائقها عن العديد من السوريين الذين اخذوا منها مطية لخيانة وطنهم.
أربعة أعوام مرت على الأزمة فهل كان حال السوريين فيها كحال أجدادهم بحضارتهم السورية التي لم تنقطع عن صيرورتها الحضارية منذ نشوئها. هل قدموا ما عليهم تقديمه للوطن الذي تغنى معظمهم به في ماض ليس بالبعيد؟ وهل ارتقى ما قدموه خلال الأزمة من شعر ورواية ومسرح وسينما وتلفزيون إلى ما يمكننا اعتباره ساهم بشكل فعال في التخفيف من حدة العاصفة التي قررنا ألا ننحني لها؟ في هذا المقال سنتناول حال الأدب والشعر، وستكون لنا وقفة أخرى مع “السينما، المسرح، التلفزيون” وما قدم خلال الأزمة.
انتشرت في دمشق وفي العديد من المحافظات السورية، منذ مطلع الألفية الثالثة  ظاهرة “الحانة الشعرية” المكان الذي صار بوصفه منبرا شعريا وثقافيا واحدا من الرموز التي تدلل على حب السوريين للشعر واعتباره الفن الأكثر قربا من دواخلهم وعواطفهم.
وربما لم يمر في التاريخ كم من “الشعراء” كالذين صدحت أقلامهم في السنين الأربع المنصرمة، حتى سرت نكتة مفادها أن السوريين كلهم شعراء، فعدد الحانات التي صارت تضَيِف الشعر كمازة مع النبيذ والفودكا والويسكي فاقت عدد المحال التي تقدم وصلة راقصة للساهرين مع نديمهم.
تلك العادة التي كانت قد تأسست في “بيت القصيد” الذي كان يقام في صالة الديسكو في واحد من فنادق دمشق والتي انتشرت بعدها في بعض البارات وعمدت إلى امتهان الثقافة والفن، فهذا المنبر لم يتخذ من جودة القصيدة وصلاحها لإسماعها للناس شرطا لتقديمها، بل ما شرعن تلك الطلاسم وجعلها تقف كالعارية التي تظن نفسها ترتدي ثيابا وتلقي بترهاتها على السامعين هو شراء الكؤوس والنفوس أحيانا.
اختفى بيت القصيد مع بداية الأزمة وبقيت ماثلة في الأذهان الكثير من القصص التي أساءت لجمهور الشعر وللشعر فيه. لكن هذا الغياب لم يطل إذ سرعان ما عاد المسرحي “أحمد كنعان” من بيروت حاملا معه فكرة يا مال الشام “خمر وشعر”.
كنعان كان قد صرح في أكثر من مناسبة عن كون يا مال الشام شكلاً من أشكال الرد على الموت بالشعر مبدئيا، ليضم إلى نشاط “خمر وشعر” لاحقا المسرح والسينما كتشكيلة مميزة لدفع الموت بالحياة.
وجد المهتمون بالشعر والخمر ضالتهم في تلك الملتقيات الشعرية التي جمعت بين القصيدة والكأس، ربما تيمنا بأبي النواس وقصائده التي تتغنى بالحانات وبغيره من الشعراء كـ “بشار بن برد والزير سالم”، لكن شتان ما بين نتاج أولئك الشعراء ونتاج معظم شعراء تلك الحانة.
“يا مال الشام” الذي انطلق في دمشق عام 2013 بدأ فعالياته بدعوة العديد من الشعراء السوريين ليكونوا مروجي الفكرة، وكان لهذا الملتقى أن يؤتي ولو أُكلا بسيطا لو أنه تبنى حالة شعرية فذة شاء وصدف ووجدت في الملتقى، إلا أننا الآن وبعد سنتين من أماسي الشعر الطويلة تلك وتعدد أسمائها وتنقل أماكنها لم نسمع بشاعر-ة رأى فيها “يا مال الشام” موهبة تستحق الاهتمام وبالتالي السعي لتبنيها، ما يدل على أن الهدف الحقيقي من إقامة هذا المهرجان وأمثاله من الملتقيات التي تغيرت أسماؤها فقط وبقي مضمونها نفسه القائم على تقديم وصلات شعرية كمازة مع الكؤوس الصاخبة، ليس إحياء أمجاد الشعر والانبعاث الخلاق من حالة راهنة تلهم الحجر، والحقيقة أن الشعر هو الضيف القليل الشأن الذي وقف على عتبات تلك الحانات الثقافية ولم يدخلها إلا لماما، بعد أن بلغ ثمن كأس البيرة في مهرجان يا مال الشام 600 ل.س ، لبعض الزبائن، و1000 ل.س للبعض الآخر حسب الزبون. إلا أن “يا مال الشام” تعرض لانشقاقات عدة شتتت زبائنه، فظهرت أيضا عدة حانات شعرية أخرى اختلفت فيها التسمية وتشابه المضمون، حتى إن العديد من الشعراء حدث أن تنقلوا في الأسبوع الواحد بين المنبر والآخر، ومن تلك المنابر المنشقة “عناة –ملتقى أضواء المدينة” لينضم إليها فيما بعد “ثلاثاء الشعر” الذي أظهر اهتماما ابلغ بالحالة الشعرية، وذلك من خلال إصداره كتاباً شعريا ضم خمس تجارب لخمسة أسماء شابة غير معروفة وهي تنشر للمرة الأولى.
أما النتاجات الشعرية في الأعوام الأربعة المنصرمة فتكاد تطغى على كل إصدارات دور النشر التي لم تهجر المضمار بعد، ولن يكلف أي هاوي شعر إلا أن يدفع ما مقداره خمسون ألف ليرة سورية حتى يبز اقرانه من الشعراء غير القادرين على دفع المبلغ بمجموعة شعرية ربما تبنى عليها حالة شعرية مستقبلا وربما تبقى للذكرى في أدراج مستشعرها.  وكان من المفاجآت التي فجرها المشهد الشعري السوري خلال الأزمة ظهور العديد من شعراء الأزمة الذين لاتعجبهم كل فنون الشعر العربي، لم يعجبهم المتنبي ولا أبو النواس ولا عنترة، لم تعجبهم أيضا قصيدة النثر بروادها الأشهر الماغوط وانسي الحاج ومنذر مصري وعلي الجندي وسنية صالح ولا رياض الصالح حسين، لم يعجبهم نتاج هؤلاء أيضا فتوجهوا نحو قصيدة الهايكو والومضة وقصيدة اللحظة وأسماء أخرى ما انزل الله بها من سلطان في عوالم الشعر والقصيدة.
بالتأكيد إن هذه الوفرة في الشعراء هي شأن ايجابي يمكننا أن نبني على حالته التراكمية أملا بأن ثمة من سيشق رداءة هذا المشهد ببزوغ نجم شاعر-ة، يقدم نتاجا شعريا يليق بقافلة الشعراء السوريين، تلك القافلة الممتدة من العصر الهلينستي وحتى اللحظة وهذا ما يجب أن يحدث فمن غير المعقول أن تبقى تلك الحانات الشعرية عاقرا أبدا، على الأقل هي لم تكن كذلك في زمن أبي النواس وبرد والمهلهل.
تمام علي بركات