جان جينيه وانحيازه لقضايا الشعوب
لم تشّكل الكتابة عند جان جينيه مرآة للواقع بل استطاع بنصوصه المسرحية أن ينفي الواقع الاجتماعي الضاغط، باختلاق قوانين جمالية شكلانية حرة تتوازى مع توقه الذاتي إلى الحرية ضد الاستلاب الواقعي الذي اجبره على الرضوخ في سجونه ومؤسسات عقابه، وعاداته، وطغيانه التأريخي على الآتي. أراد جينيه أن ينفي قوانين الواقع الاجتماعي السائدة في زمن الكولونيالية والرأسمالية، ويجلب بديلاً عنها قوانين الشكل الفني الوهمية، والمصطنعة،والزائفة عن الإيديولوجيات المكرّسة، حتى إن ظهرت في نصوصه عذابات ذاته المضطهدة والمستلبة وهي مفعمة بالكراهية والقلق، والتمرد على طمأنينة زائفة وسط عالم من القسوة والرعب.
جان جينيه شاعر وروائي فرنسي ولد عام 1910 وتوفي عام 1986. تميزت مؤلفاته بأسلوب مميز وغني، حيث واجه في أعماله قضايا الإنسان أمام الشر والألم من خلال شخصياته الخيالية التي تحمل تناقضات في تصرفاتها وانفعالاتها ومشاعرها داخل عوالم صحيحة، يبدع خيال الكاتب في وصفها.
ارتبط اسمه كمسرحي بمسرح اللامعقول بعد أن قضى أيام طفولته المضطربة في ميتم وبعض أيام شبابه في الإصلاحيات، بدأ عمله الأدبي في السجن حيث كتب روايات بلغة شعرية جاذبة مركّزاً على تيمات الجريمة والتهميش الاجتماعي، ثم أخذ يكتب المسرحيات بسلسلة من تبادل الأدوار والأفعال بين السادة والخدم، حيث يتوطن العنصر الدرامي في التوتر بين الرؤى الذاتية وهشاشة بنائها، ومن صفات مسرحياته الدرامية “الطقس والتحول وتبادل الهوية”، ويظهر ذلك واضحا في مسرحياته (الخادمات) و(الرقابة عليا)، كما أنه يرفض الحبكة والعوامل النفسية للشخصية.
مسرحية (الخادمات) هي رديفة لمسرحية (رقابة عليا) حيث يدور التوتر الدرامي بين ثلاث شخصيات نسائية: سيدة وخادمتان عندها، حيث تريد كل منهما الوصول إلى مرتبة سيدتها عبر طقس مسرحي لتبادل الأدوار بين السيد والتابع، حيث تعبّر الخادمتان عن كراهيتهما للتسلط والقهر الذي تمارسه السيدة معهما والذي تمارسه الخادمتان مع بعضهما. يطرح جان جينيه في هذه المسرحية قضية الصراع الطبقي، الذي نشأ منذ الأزل بين طبقات المجتمع سادة وعبيد، أغنياء وفقراء، رعاة وأمراء، وقد طرحها من خلال تمرد أختين خادمتين على سيدتهما فتقومان بالتدريب على قتلها في غرفتها أثناء خروجها منها فتتقمص إحداهما دور السيدة، والأخرى دور الخادمة، وتسيران في حوار مستفذ كل مرة. لينتهي الوقت وتعود السيدة ولم تصلا بعد إلى مرحلة قتلها، وتلك هي العقدة في النص الأدبي للمسرحية. وفي هذا الإطار تقول د. حنان قصاب حسن عنه في مقدمة مسرحيته: “الكتابة عن جان جينيه عمل انتحاري فيه مخاطرة وجمال الفعل الفريد الذي يختصر الحياة، ويعادل الولادة، فهو كالرمل يفلت من بين الأصابع وينزلق حاراً ومدغدغاً لحد الألم”. ودمشق الشام العاصمة العريقة الحرة تعرف جينيه بأخلاقه الإنسانية منذ عام 1920 حين احتل الجيش الفرنسيّ دمشق، وقصف درعا والسويداء بالقنابل. حينها كان جينيه يؤدي خدمته الإلزامية في الجيش آنذاك، فهرب رافضاً ذلك القصف وعوقب بالسجن، لذلك اعتنق قضايا النضال العالمي فعاش إلى جانب الفهود السود في أمريكا ووقف موقفاً عنيفاً من الحرب ضد الجزائر، كما عايش الفلسطينيين في عجلون، وكان أول من دخل مخيمات صبرا وشاتيلا وكتب عنها كما كتب عن كل المشردين من العالم والضعفاء والمظلومين متخذاً موقفاً صارماً من البورجوازية. وبعد عرض مسرحية “الخادمات” على مسرح أثينا في باريس أصبح له مكانته المرموقة ضمن الوسط المسرحي الفرنسي بعد أن أثبت مكانته ككاتب للقصة والرواية، ومن أشهر مسرحياته مسرحية (البارافات) وكان موقفاً سياسياً من الحرب الفرنسي على الجزائر.
آمن جينيه بالمسرح ليكون وسيطاً حقيقياً بينه وبين الآخرين، وكانت مسرحياته معبّرة بشكل صادق عن مواقفه السياسية، فتحدث في مسرحيته (السود) عن الزنوج ومشكلاتهم العنصرية، وفي “العاشق الأسير” عن فلسطين وفي “الحواجز” عن الجزائر، وكانت مسرحياته معبّرة حقيقة عن حياته، وأصبحت مسرحياته نوعاً من الثأر، وأحياناً نوعاً من التمرد، وفضحاً للعلامات الموجبة للبرجوازية الفرنسيّة التي كان يكرها أشد الكره. وكان يعتقد أن البحث في هذه المناطق هو نوع من التطهير والوصول إلى قاع الرفض المطلق. سيرة جينيه في نهاية المطاف هي سيرة النفي والترحال والرفض. أما سيرته اللاحقة فظلت تطارده حتى آخر يوم في حياته بوصفها فضيحة علنية “قد تكون الكتابة هي ما يبقى لك عندما تُطرد من مجال الكلام القاطع”.
إبراهيم أحمــد