“شكراً أبا دانيال”
أكسم طلاع
اضطررت لشراء ربطة عنق لأحضر أمسية موسيقية ذات يوم، لأن مراسم الحفل الموسيقي تقتضي ارتداء الزي الرسمي، وبصراحة أكثر لقد استعنت بصديق لربط “الكرافة” على مدخل مكان الأمسية، وبالفعل حضرت الأمسية بربطة عنق، علماً أنني لم أرتدِ ربطة عنق في حياتي، المكان منيف بمقاعد فارهة وأنيقة، مسرح واسع وهادىء وحضاري بكل معنى الكلمة، واللافت عازف العود الأنيق الذي قدم “صولو” أغنية لكوكب الشرق أم كلثوم، وبالفعل أجاد الرجل ونال من حرارة التصفيق كثيراً، لكن البروشور التعريفي المرافق للحفل فيه من الإشادة بكفاءة العازف وشهاداته الكثير، فهو الحاصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة الموسيقى، وأجاد في أغنية لأم كلثوم، فماذا أبقى للسنباطي من شهادات؟!.. مع إصراري أن هناك فرقاً واسعاً بين الشهادة والموهبة فالدكتور الفنان أمر مختلف عن فنان أثبت بإبداعه ما يستحق لقب الفنان، والموضوع ينسحب على كل مجالات الفنون التشكيلية أيضاً.. إلى هنا تنتهي الحكاية لأنتقل إلى المنطقة التي أسكن فيها حيث تجاور مسكني نقطة عسكرية صغيرة “حاجز” محرسها مجاور لشباك البيت، وقد سمعت منذ يومين في ليلة ماطرة وباردة صوت دندنات آلة العود تصدر من محرس الجندي الذي كان يعزف مقطوعة لأم كلثوم، أصخت السمع وأطربت، فما وجدت نفسي إلا خارجاً من المنزل، وبحجةٍ ما مررت أمام المحرس لأجد أبا دانيال يحتضن عوده بينما زميله يغني بصوت خفيض وهو يعالج “سطل” النار بينهما يلقمها قطعة من الخشب أو الكرتون التماساً للدفء، ألقيت السلام فردّا مرحِّبَين ببشاشة، ودعاني “أبو دانيال” للجلوس مرحّباً.. جلست للحظات معهما والمطر ينهمر غزيراً و”أبو دانيال” يحلّق بنغماته عالياً بنشوة المحب، والمتمكن من آلته، وإحساسه بما يعزف.
ودّعتهما شاكراً وممتنّاً وبخاطري أمسية الموسيقى وربطة العنق، فقد تجاوز “أبو دانيال” كل مراسمها حين ترك أثره في الروح، وهزني بعاطفة تسكن بيننا وتربطنا عميقاً بالحياة والوطن، نحن أبناء البساطة والعاطفة المنسجمة مثل كون، نعيش الموسيقا في أي مكان نعزف ونسمع لأننا نملك لياقة الحياة ولطف إنسانيتها العامرة بالمعنى.. شكراً “أبا دانيال” ……. شرفٌ لي وجودي حيث أنت.. ترسم بدندنة العود لحناً لتجعل الممكن جميلاً، وأكثر جدارة بأن يكون باسلاً وعالياً.. شكراً “أبا دانيال”: شرف لعاطفتي أن تجاور حواسك!.