ثقافة

جديد “ضفاف”: من المسؤول عن انفلات العنف؟

ما زالت “مغامرة” مجلة “ضفاف” الفكرية الثقافية التي يصدرها المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي في دار البعث بالتعاون مع وزارة التعليم العالي، مستمرة في ظل توقف العديد من المجلات المشابهة عن الصدور، وما زالت المجلة معنية بتقديم وجبة ثقافية غنية وهادفة من المعرفة المعاصرة.
وفي هذا السياق تابعت المجلة محاولتها استكمال رسم خارطة معرفية للإرهاب و”العنف” الذي يحيط بنا من كل حدب وصوب، فبعد أن فنّدت في عدديها السابقين “أسس الانفلات العنفي”، وبحثت “عن جذوره في موروثنا الديني”، وطرحت أسئلة من قبيل “هل يمكن لانفلات العنف أن يعبر عن مطلبية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؟”. فإنها اليوم ـ في عددها الجديد شتاء 2015ـ تسأل: “من المسؤول عن انفلات العنف”؟، وما هي أسسه؟، ما ماهيته؟، ومن يمارسه في منطقتنا ولأي أهداف؟.. ولأن الدماء التي تسيل بكثرة هذه الأيام هي دماؤنا نحن،  فقد أتى الجواب واضحاً وصريحاً ومباشراً، فمنذ السطر الأول لكلمة العدد، أشار بسام هاشم، مدير التحرير، إلى “الوهابية” باعتبارها المسؤول الأول عن هذا العنف الأعمى الذي يضرب المنطقة، فبحسب “هاشم” لم تعد الوهابية “مجرد أداة سياسية لبسط النفوذ الداخلي أو الهيمنة المحلية”، بل إنها تخطت كل ذلك “كي تطرح نفسها بديلاً نهائياً لكل الثقافات والأديان القائمة، ولتكون ديناً جديداً برسم العائلة المالكة السعودية يهدد بتدمير وابتلاع الإسلام المحمدي، ويطمح للسيطرة على العالم الإسلامي حتى خارج حدوده التاريخية والحضارية التقليدية” مبيناً أنها “حولت جهادييها إلى برابرة من العصور الوسطى، يهددون الإسلام بنزعتهم العدمية، ويسترخصون أرواح المسلمين من خلال عبادتهم للموت – لا عشقهم للشهادة – ويطوعون النص القرآني لخدمة إيمانهم بالعنف والقوة المجردة”.
بيد أن “هاشم” لا يغفل علاقة التخادم بين الوهابية والغرب من خلال ارتباطها الوثيق “منذ منتصف القرن الماضي، وفي إطار علاقة مصيرية، بتوسع الأنموذج المالي والاقتصادي والمجتمعي الأنغلو ـ أمريكي”، لكن وفق مفارقة لافتة “حيث التواطؤ المخيف بين أكثر التكنولوجيات تطوراً وأشد الخرافات ظلامية”، وحيث “سواطير الذبح مع الهواتف الرقمية والتواصل عبر الأقمار الصناعية”، وكل ذلك “في مزيج متناقض من مشاعر القلق والنشوة حيال نبوءات آخر الزمان، وحلول نهاية العالم، والوعد بلقاء حوريات هوليووديات”، وهي، أي الوهابية، “استكملت في الإسلام، تماماً من خلال شبكاتها الإعلامية وقوتها المالية الضخمة، ماشكلته الصهيونية بالنسبة لليهودية، والإنجيلية الأمريكية بالنسبة للمسيحية، كهرطقة دينية سياسية، ورديف عنصري يعمل في خدمة الإمبريالية الغربية، وينطوي على ذات أهدافها التوسعية الاستيطانية والاستعمارية”، وتلك هي بالذات “العبوة المفجرة” لكل هذا العنف الذي نعيشه.
وكان من الطبيعي أن يتصدر عددٌ هذا همّه، كما يقال، بحثاً بعنوان “الدولة الإسلامية.. إستراتيجية مضادة لدولة مضادة، ترجمة أنس الفلاح، فنّدت فيه الكاتبة أسس قوة “داعش” وكيفية مواجهته، معتبرة “أن أي إستراتيجية لهزيمته يجب أن تقوم على كسر التآزر بين العمليات العسكرية والسياسية لداعش وقيادتها المتدرجة”.
فيما تناول البحث الثاني تحت عنوان “إدارة أوباما الثانية والشرق الأوسط” ترجمة نور العظمة، التحديات التي تواجهها “الإدارة” في ولايتها الثانية وخاصة الشرق الأوسط، وسبل مواجهتها من وجهة نظر أمريكية بحتة بالطبع.
كما كان من الطبيعي، أيضاً، أن يُخصص ملف العدد لموضوع العنف، فترجم الدكتور مازن مغربي ثلاثة أبحاث، تناول الأول، الذي جاء تحت عنوان  “ماهية العنف”، تعريف العنف وأشكاله، والتمييز بينه وبين النزعة العدوانية، وموضوع الاحتياجات والرغبات والحرمان ودورها في تأجيج مشاعر العنف.
وغاص الثاني، “أسس العنف: تحليل أنثروبولوجي”، في قضية التماثل بين ما هو بيولوجي وما هو كوني وما هو معياري، لأن العنف، بحسب الكاتب، “لا يمثل سمة معزولة أو قابلة للعزل، متصلة بطبيعة النوع البشري، بل هو نتاج منظم من خليط مختلف المؤثرات الأساسية”.
وجاء البحث الثالث تحت عنوان “من المسؤول عن انفلات العنف”، موضحاً أن “الوهابية” صنيعة الغرب، فقد دعمتها بريطانيا أولاً ثم أمريكا لاحقاً، مذكراً بأفغانستان، وكذلك تنظيم القاعدة و”داعش”، حيث يستخدمهم الغرب “كمقاتلين بدلاء في حربه ضد أعدائه”، وعندما يخرجون عن السيطرة يصير بالإمكان “استخدامهم ذريعة تبرر الحرب ضد الإرهاب” وفي الحالتين تحقيق مصالحه، ويقدم البحث الحالة الإندونيسية والفلسطينية مثالاً على تلاعب الغرب بتاريخ المسلمين وثقافتهم وإسلامهم أيضاً، ودفعهم للعنف بشتى السبل، فقد “تم خلال العقود الخمسة الماضية قتل قرابة عشرة ملايين من سكان العالم الإسلامي لأن بلدانهم لم تقم بخدمة الإمبراطورية” فيما “الدولتين اللتين تمولان الإرهاب قطر والسعودية تعدان من أوثق حلفائه”.

وقدم فريد جنبرت ترجمة لبحث بعنوان “كبش الفداء”، يقوم فيه المترجم بمناقشة مفهوم المؤلف رينيه جيرار للموضوع ، ويتحدث عن تاريخية النظرية، ومفنداً دورها في تهدئة دورة العنف الدائمة.
بدوره يقدم عامر نعيم إلياس ترجمة لبحث بعنوان “العنف والحرب السياسية، دراسة حول عكس نظرية كلازوفيتس”، وهو بحث شيق وهام يدور حول الفروق بين “صيغة” كلازوفيتس” بأن “الحرب ليست سوى استمرار للعلاقات السياسية بوسائل أخرى”، و”صيغة” نقاده، مثل لينين وكارل شميت، القائلة بأن “السياسة هي استمرار وامتداد للحرب”، ويشرح دوافع الطرفين ومنطلقاتهما، مركزاً على مقولة “النقاد” بأن “العنف أفقاً للسياسة لا يمكن لها أن تتجاوزه”.
عناية ناصر قدمت ترجمة لبحث “الإرهاب الدولي وصراع الحضارات”، دحض فيه الكاتبان نظرية “هانتنغتون” حول صراع الحضارات باستخدام أسلوب التحليل التجريبي، معتمدين بصورة رئيسية على قاعدة بيانات حول الإرهاب الدولي.
وقدمت ناهد تاج هاشم ترجمة لبحث “العنف الثقافي”، وهو “أي مظهر من مظاهر ثقافة ما يمكن استخدامه لشرعنة العنف بشكله المباشر أو البنيوي”، فمع “استبطان الثقافة العنيفة، ينحو العنف المباشر إلى أن يكون مؤسساتياً، ومتكرراً وطقسياً”.
أيضاً قدمت ليلى الصواف ترجمة لبحث “العنف المدرسي”، يتناول تاريخ العنف في المدارس، تحت عناوين فرعية مثل، العنف الأخلاقي، عدم الانضباط، التحرش في الوسط التربوي، العنف النفسي، العنف الجسدي، العنف الجنسي، العنف الاجتماعي وما إلى ذلك، ثم كيفية المواجهة وتأثير وسائل الإعلام.
ويختتم العدد بمحور “الإسلام في العالم المعاصر” فترجم بشار بكور بحثاً بعنوان “تمثيل الإسلام في لغة القانون، بعض القضايا الحديثة في الولايات المتحدة”، تناولت فيه الكاتبة ما يسمى بالاستشراق القانوني من خلال قضايا حقيقية عرضت أمام المحاكم الأمريكية وكان أحد طرفيها مسلماً.
وبعد، فإذا كان التاريخ الإسلامي لم يسبق “أن شهد كل هذا الحجم من العنف والموت والخراب والتوحش كالذي نشهده اليوم في عالمنا العربي على مذبح الوهابية الجريحة، التي تعيش وهم ساعة ظفر تريده أن يكون نوعاً من إعادة تأسيس لطبيعتها الانتقامية”، بحسب هاشم، إلا أنها، أي الوهابية، “تلفظ، حقيقة، آخر أنفاسها الإجرامية، وتتخبط بعجزها عن الاستمرار في عوالم عربية وإسلامية تعيد تشكيل هويتها السياسية والثقافية في أفق أكثر رحابة وتطوراً، كما الصهيونية التي تتسلح اليوم بالجمود في سياق التستر على  قصورها عن الاستمرار وظيفياً، يدفع تاريخنا الراهن، بحركته الجدلية، وهابية آل سعود في منحدر سقوط قد يكون الأعنف منذ انهيار السلطنة العثمانية”.
أحمد حسن