ثقافة

في انتظار ما يأتي

عبارة “في انتظار ما يأتي” تبادلتها في حوار مع الفنان التشكيلي “محمد سوادي”، فأسفرت عن سباق بيننا، بل رهان، أن يأتي كلٌّ منا بما توحي إليه، هو بلوحة، وأنا بمقالة.
في اليوم التالي باغتني بعد اختفائه خمس ساعات عن شبكة التواصل الاجتماعي، بلوحة ولا أجمل! بينما تشكلت مقالتي بعد يوم ويزيد.
“في انتظار ما يأتي”
من يستطيع أن يجسّد الانتظار كوسيلة، أو صهوة، أو مطية، بأسطر أو صفحات، ويخضّب البياض بالغاً الغاية المرجوّة، أو الحلم المرتقب؟!.
في كلّ قراءاتي للأدب، وهذا ينساق على كتاباتي أيضاً، المرأة هي التي تجسّد الانتظار بشكل واسع، هي من يقوم بهذا الفعل بتفردٍ، ولم أجد رجلاً يتقن الدور كما هي.
في لوحة “سوادي” ثمّة رجل – خلاف العادة – يتسربل بأزرقه الوفير في زاوية اللوحة، بينما المرأة ترنو من بين ألوان الأرجوان المتقد، والتي ترمز إلى لهيب اللهفة، وجمر الاحتراق، ترقب  شموسه الصغيرة التي يخبئها  في قلبه الراعف، لتشيع ضياءات الكون على أفق مفتوح، يمثل أعلى اللوحة التي تشي بالكثير، انبلاجاً وفضاءات من الآتي لا يحدّها حدّ. تترك اللوحة في متلقيها أسئلة جمّة، ليجد أجوبة لها في داخلها، وهذه هي بذرة الإبداع، حيث تتكور في رحم النقطة الأكثر يباساً، لتتفتق عن ربيع، وما الربيع إلا القادم.
كما قلت  سابقاً، إنّ في الأدب ثمّة امرأة تنتظر، وكأنّ في جيناتها يوجد ما يسمى انتظاراً، إذ تقبع منتظرة تحلم بآت تتسربل برغبة الاستقرار والعيش الهادئ، فتبدو  وكأنها حاضنة للحلم.
أعود  إلى العنوان الذي تراهنا عليه، وهو “انتظار ما يأتي”، ولعل “بينلوب” تجسّد ذلك الانتظار اللاهف لزوج مبحر في الغياب، وقد طال الأمد، فكثر من حولها الرّجال، ورغبوا في الارتباط بها، بيد أنها أرجأتهم حتى يكتمل نسجها، فكانت تقض  ليلاً ما غزلته نهاراً، وهكذا تمضي مع أيامات انتظارها العجاف.
وكذا صوّر الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح، امرأة  لا يغادرها الرّجل الذي فتح صدره للاغترابات،  ليضمن حياة أفضل لكليهما وللطفل الصغير، فتتجلّد بالصبر وترتدي انتظاراً طويلاً: “فحين غادرها تاركاً حدودها/وطفله الرضيع/اصطاده فرح وحنين إلى هجرة/لا قرار لها/رحل الآخرون وعادوا/كتبوا بدم القلب أشواقهم/وهو في شرك الاغتراب مقيم/أمات؟ وفاطمة بعد خمسين عاماً تراقبه/لا تملّ من الانتظار/وأحفادها يكبرون وما شاخ في الجسد انتظار”.  بهذه الصور والعبارات البسيطة تتشكل قصيدة الشاعر، ليرسم عمراً من الانتظار لامرأة مازالت تحلم بمن يأتي حتى بات مجهولاً، لكن قلبها وبعد نصف قرن ظلّ معلّقاً بالطريق.
“قلبها معلّق بالمجهول/وعيناها لا تكفان عن مراقبة الطريق لعله يأتي”. ويُبقي الشاعر “لعل” مفتوحاً على حلم، تماماً كما في لوحة “محمد سوادي”، فالأفق مشرع على كلّ آتٍ، وما يحمل من شموس.
تختلف الشاعرة نازك الملائكة في رؤيتها لانتظار ما يأتي، إنها تؤثر الانتظار أن يبقى ماثلاً كحالة انتظار تشعلها دائماً، فالزائر الذي تنتظره على قلق وشغف تتمناه ألا يأتي، كي لا يقتل شهوة الحلم في مجيئه، ويغتال أويقاتها المشغولة بلون وبريق:   “ولو جئتَ يوماً – ومازلت أؤثر ألا تجيء/لجف عبير الفراغ الملون في ذكرياتي وقصّ جناح التخيّل واكتأبت أغنياتي/وأمسكت في راحتي حطام رجائي البريء/وما دمت قد جئت لحماً وعظماً/سأحلم بالزائر المستحيل الذي لم يجيء”.
هو الحلم تريده في استمرارية، ليبقى جناح التخيّل حائماً في الجهات، ولعلي أتساءل: هل تقف الشاعرة من الحلم كما وقف الأديب جبرا إبراهيم جبرا حين قال: “الحلم هزيمة بقدر ما هو انتصار، فهو سقوط على العالم اللا متحرك في الداخل، ولكن له أن يكون أيضاً امتداداً نحو اللا نهائي والمستحيل..”. بينما الشاعر ميخائيل كونين في قصيدة له، يرغب في أنّ الذي سيأتي أن يأتي بأي شكل كان، فالحرب التي منعته من حضوره الجسدي الكامل، لم يخفِ غبطة المرأة التي تنتظر ولو عاد ببقية رجل: “في ذلك الدوي العاصف/كانت فرصة الاختيار محدودة/وكانت العودة بكم خاو أفضل من العودة بروح خاوية”.
ترى هل ينتاب “حنظلة” الشخصية الكاريكاتيرية للمبدع “ناجي العلي”، المصلوب على خشبة الانتظار منذ أمد، نزوعاً إلى مزيد من الحلم؟! أعني الوصول إلى الغاية التي جعلته يقف عقوداً وهو يدير ظهره إلينا، لقد أقسم ألا نرى وجهه إلّا إذا تحرّرت فلسطين.
ترى كم ستنتظر يا حنظلة؟
وكم سنرقب تلك اللحظة التي نرى فيها قسماتك؟
إنه انتظار ما هو آتٍ، قد يأتي وقد لا يأتي.
فهل ثمة ما لا يأتي؟!.
في قصتي “امرأة تجيد الانتظار” ثمة كائن رهيف تكونه، مسكونة بالرؤى والعشق والحلم، مكتظة بالانتظار لرجل غادر ضفافها إلى بلاد الإغريق، كعادة المنتظرات القديسات، ولشدة عشقها له راحت تبحث عن كل ما يتعلق من معلومات عن تلك البلاد: “سأقوم باحتفالات الآدونيا” كأيّ امرأة إغريقية، الحالمة، المترقبة لقادم، أصنع دمى من شمع وطين مشوي، حيث تمثل الحبيب الغائب، أحمل الدّمى وأضعها عند مداخل البيوت، راغبة أن يأتي رجلي، ويجمعنا بيت خاص بنا”.
إنها تتبع طقوساً خاصة، لتكون وسيلتها إلى تحقيق حلم، يُلغي انتظاراً ليكون ما يأتي وقد أتى.
وعند الشاعر “عبد الوهاب البياتي”، وفي ديوانه “الذي يأتي ولا يأتي” فهي حكاية ذاتية لحياة عمر الخيام، حيث يصف مكابدات كلّ إنسان في شخص هذا الشاعر، فالفعل يأتي، هو حالة الانتظار بما سيولد، بينما ولا يأتي، تنفي المجيء، لتسوّغ للبشرية تكرار الألم في انتظار الفرج، حيث يبقى المتلقي في حالة توتر وتهيّب في أنّ الذي ننتظره ربما لا يأتي.
فهل يأتي ما ننتظره؟. ليته يأتي ولو بكمٍّ خاو.
نجاح إبراهيم