الرابعة بتوقيت الفردوس: كيف صار البغل حصاناً؟
اعتمد الفيلم على تقنيّتين سينمائيتين رئيسيتين، الأولى متعلقة بفنّ المونتاج، بينما الثانية تستفيد من مفهوم العمق في الكادر. إن واحدة من مزايا المونتاج، وفق رأي “دزيجا فيرتوف”،هي قدرته على المقارنة بين مسألتين أو نقطتين من الصعب المقارنة بينهما أو يبدو أن لا صلة بينهما ،فيقوم تتابعاً زمنياً من لقطة بعد لقطة أُخرى بجعلهما موضوعاً متّصلاً، يُمكن فهم هذه الميزة بإيضاح الفرق بينها وبين اللغة، ففي الشعر نقول: الرجل يرفرف ، فنجمع في كلمتين فقط بين كائن بشري وبين فعل من أفعال الطير، بينما في السينما إذا افترضنا جدلاً أنّنا نقول بصرياً نفس الأمر، فيجب عرض رجل يفرد ذراعيه، ثم تليها لقطة أُخرى لطير يرفرف، تماماً مثلما فعل صانع العمل مع اللقطة الافتتاحية التي تُظهر أفعى صفراء تبرز من جدار، ثم فوراً تليها عبارة: وزارة الثقافة تقدّم.
لقد أراد أن يُقارن الوزارة بالأفعى، ولاحقاً في لقطة ولادة المرأة في الشارع؛ لقد كان الطفل في لحظة الولادة مرفوعاً من ساقيه في الهواء، ثم أعقبها فوراً بلقطة تُظهر البغل الميّت المرفوع من ساقيه بحبال الرافعة..
الشخصيّات المتنافرة ،والمقاطع المتباعدة ،وفوضى عدد الشخصيّات التي بلا سمات واضحة، وبلا أيّة حبكة أو رابط قصصي آخر، دفع للاستناد بقوّة على المونتاج لتوحيد ما لا يمكن توحيده، فواحدة من وظائف المونتاج هي أن يعزز من وحدة الموضوع، ولكنّه لا يبتكرها من العدم، فهي تتحقق أثناء الكتابة وليس بعد التصوير، إهمال القصّة ترك المونتاج بمفرده ليعتني بما ليس باستطاعته ، فازداد الطين بلّة، وبرز أكثر ما حاول المُخرج أن يُخفيه، وظهر أوضح ما سعى إلى التعتيم عليه. وإن إدراك الجهة المنتجة لهذه النقطة دفع بأحد موظفيها للوقوف قبل بدء الفيلم بدقائق ليقرأ كلاماً لعلّه لم يكتبه هو، وإذا كان كتبه لا يعيه: (يبدأ الفيلم بمجموعة حكايات لا لُحْمةً فيما بينها، مجموعة من الرجال والنساء لا تلتقي أقدارها، مجموعة من مشاهد تبدو للوهلة الأولى مفككة تنشد انتظاماً مفقوداً، فيتبادر سؤال إلى الذهن: ما الذي يفعله محمد عبد العزيز؟ لكن سرعان ما يوحّد هذا الشاب الموهوب المصائر المقدمة والحكايات المروية) لقد حاول هذا التصريح قطع الطريق على التذوّق الفني، وتعطيل التلقّي الجمالي البديهي، لأنّ أي عاقل يشاهد أكيد سيسأل نفسه: ما هذه الحكايات التي لا لحمة بينها؟ وما الذي يفعله محمد عبد العزيز؟ لقد قامت الجهة المنتجة من خلال التصريح بضربة نقدية استباقية، حددت فيها كيف يجب أن يفكّر الجمهور، فصادرتْ رأيه، وعطّلتْ ذائقته، وخرّبتْ بديهته،وأنشبت مخالبها الزرقاء بين خصلات رأس وعيه، ليس بعد المشاهدة كما درجتْ أن تفعل في العقد الأخير، بل قبل المشاهدة هذه المرة، فخالفتْ بديهة جوهرية من بديهيات التلقي الجمالي، ألا وهي أنه يجب أن يحكي عن نفسه بنفسه، لا يجوز للنحّات أو للرسّام أو للموسيقي أن يقف أثناء أو قبل تقديم عمله ليشرح عنه، يمكنه أن يقوم بتقديمه، أن يحيي الجمهور ويشكره للمجيء، وليس تفسير العمل، فكيف بالسينمائي الذي يمتلك الدالّ اللساني في الحوار الدرامي وفي صوت التعليق وفي المواد المكتوبة؟ إن أوّل ما يتعلّمه طلّاب السيناريو هو أنّه يجب على القصّة أن تكون واضحة، لأنّك لن تقف لتشرح وتتكلّم، فالمفروض أن الذي على الشاشة ليس خريطة أو متاهة أو فنجانً قهوة مقلوب والفشل عليك هو المكتوب، بل فيلماً روائياًّ، وإذا أراد صانعه أن يدعمه ويشد أزره ويقوّي عضده ويكشف خفايا ثنايا ألغازه بالحديث عنه فلماذا صنعه من الأساس؟ كان يُمكنه إلقاء قصّته بالاعتماد على الدالّ اللساني، لفظاً أو كتابةً، بدلاً من الاعتماد على الدالّ الأيقونيّ الدرامي الموسيقي الصوتي البصري المونتاجي المكساجي .
الكلام عن (المخرج الموهوب الذي سرعان ما يوحّد المصائر المقدمة والحكايات المروية) فشل في إخفاء آثار جروح العمليّة القيصريّة التي تعرّض لها البناء القصصي، صاحب بدعة تبرير فشل العمل بالحديث عن أن فشله هو سر نجاحه، ظنّ نفسه ينجح بإخفاء أن العمل وُلدَ ميتاً، لقد حاكى بذلك طبيباً يقول: لقد نجحت العملية ولكن المريض مات! فارق الحياة من خلال عرض مشهد مجتزأ من لقطة أو أكثر، ثم بعدها مشهداً مجتزأ جديداً، ثم ثالث، وهكذا، ثم العودة إلى أوّل مقطع – نقول مقطع لأنّه ليس واضحاً إن كان مشهداَ أم لقطة- ثم إطالته قليلاً بتمديد بدايته أو نهايته؛ السلوك اللائق كان في ترك الجمهور ليحدد بنفسه إذا كان ذلك تقنية سرد، أو مجرّد سُعار مونتاجي يرمي بعرض الحائط وظائف ومعايير وأغراض المونتاج، لقد فشلت هذه الطريقة العجيبة أوّلاً في اقتراح بناء للقصّة، لأن هذا البناء انقطع بعد دقائق وعاد السرد متًصلاً في مرحلتين كاملتين؛ مرحلة الشخصيّة الذي يُريد أن يبيع كليته، ومرحلة المشهد الذي تؤدّي فيه الشخصيّات رقصة مسرحية غير مبررة عند حوض الماء، فأدّى إلى التشويش وصعوبة الفهم والمتابعة، وأيضاً إلى تجاهل سؤال خطير؛ من الذي يشاهد الآن؟ الجمهور أمْ المخرج أمْ فنّي المونتاج؟ لقد تطلّب الأمر حوالي أربع عشرة دقيقة من بداية الفيلم لإدراك أن ذلك الهذيان محاولة مُخجلة لتأسيس تقنية سرد، ربّما انعقد أمل البعض في الصالة أن يتوقّف العرض ليسمعوا اعتذاراً بمكبرات الصوت عن تشغيل النسخة الخطأ، وأن النسخة الصحيحة في طريقها إلى جهاز العرض، غير أنها لم تصل، ثم انقطع الهذيان – توحيد المصائر في قراءة أخرى- وتوقف لأن الغرض منه كان فقط تقديم الشخصيّات والمحاور غير المترابطة، وربطها غصباً عن المنطق، ورغماً عن الذائقة، وحالما ظنّ أنّها قد ترابطت، تركها واستبدلها بتقنية القطع بالتزامن، ذلك السبب كان وراء الحديث عن أنّ الوصول إلى النسخة الأخيرة تطلب الانتقاء من بين ثلاثين نسخة مونتاجية، يا لزلّات اللسان أيّها الأستاذ فرويد، إنّه لم يقل: الفيلم خضع للمونتاج ثلاثين مرّة، أو: فني المونتاج تلقّى ملاحظات للتعديل ثلاثين مرة، بل: ثلاثين نسخة، لعل تلك النسخ عُرضت للتصويت، ففازت إحداها، هل فازت الأفضل؟ أُقسم أنّه: لا! بل الأقل رداءة، فلكم كان التصويت مُضنياً بين ثلاثين وجهاً مشوّهاً.
التقنية الرئيسية الثانية المميزة للفيلم، هي التعامل مع عمق الكادر، وهي بهدف التملّص من الرقابة ، فالعلاقة بين الأقرب والأبعد عن الكاميرا يجب أن تُراعي مبدأ علاقة الشكل بالأرضيّة، ومفهوم البعد الثالث، وليس توجيه الرسائل المضمرة، من أمثلة ذلك: الحوار بين الشخصيّة الذي يُريد بيع كليته، وبين سمسار تجارة الأعضاء عن أن الكلى أصبحت رخيصة الآن بسبب كثرة القتلى، يقولان ذلك بينما من خلف السمسار على يمينه لوحة إعلان عليها العلم السوري تحت عنوان سورية تتحاور، بعض السينمائيين السوريين الذين لما يزلوا في ريعان العادة الفنيّة ربّما داخوا من هذه اللفتة الإبداعية، وأيضاً مشهد الجندي على الحاجز وهو يتحرّش ببنت الجيران العابرة، ويفتّش حقيبتها ويحاول أن يسلبها زجاجة العطر، بالتزامن مع صورة الزعيم السياسي الشرعي للبلاد على الحائط الذي خلف الجندي، بقصد مزج الصورة مع السلوك السلبي للجندي،هذا يدعم بقوّة فرضيّة أن تكون مشكلة الفيلم عائدة إلى طريقة كتابة النص، فالكاتب لم ينطلق من شخصيّة، أو من حبكة، أو من مقولة عامة، الطرائق الثلاث السابقة هي فقط الطرائق المميزة للقصّة الجيدّة، ولا ينبغي لجاهل مترعرع إلى سوء الفهم متسرّعاً أن يدّعي طريقة جيّدة أُخرى غير ما سبق، كالطريقة الرائجة بين كتّاب سيناريو الفيلم المحليين، ألا وهي البدء بالكتابة من صور بصريّة بينما يعضّ أحدهم على القلم بنواجذه؛ إنّما يوفّي الطلاب النصائح يتجنّبها نهائيّاً، لأنّ الكاتب عندها يلوي عنق الظروف ويجحد سمات الشخصيات لتتفق مع الصورة التي فكّر فيها مسبقاً، ذلك ما ظهر كثيراً في “الرابعة بتوقيت الفردوس”، فالكاتب يريد مشهداً عن جنود على حاجز يقتادون مواطناً، ويُجلسونه كالأسير، فماذا يفعل؟ يجب على الشخصيّة أن يستقل سيّارة تاكسي لكي تتوقف عند الحاجز، لكن المشكلة أنّ نفس الشخصيّة في مشهد سابق كان قد حمل المريضة على عربة يجرّها بغل، فلماذا لم يأخذها بالتاكسي عندئذ ؟ كان بلا مال ولذلك باع جوّاله بهدف التاكسي، ولكن لماذا لم يبعه لكي يأخذ زوجته بالتاكسي؟ ببساطة لكي يجر مشهد العربة، وبعد ذلك عثر على موبايل للبيع كان قد نسيه مع المخرج ريثما يحين مشهد الحاجز، ولأنّه يُريد تصوير مشهد الحصان الأسود في النفق، نسي أنه كان بغلاً يجرّ حنتوراً لرجل فقير، وليس حصاناً “تاركوفسكيا” يصهل، استغباء الجمهور سمة الفيلم، ولكن لا يجوز التمادي فيها إلى درجة افتراض أنّه لا يعرف الحصان من البغل، لقد ظهر البغل بحلته الجديدة وهو يصهل أمراً كوميديا صرفاً، فذهبتْ أدراج النفق فرضيّة أن المشهد تراجيدي، لقد شاهد الجمهور محض حلقة من مسلسل قائم على اسكتشات، قام عبد العزيز بنفث كليشيهات بصرية فيه ليُبعد عنه هذه الصفة، كمشهد البيانو الذي فجأة يحرقه الشخصية خدمةً للمخرج وليس للقصة على طريقة الفيديو كليب، والكليشيه الأحفورية المملة عن الفتاة في ماء حوض الاستحمام، والرقصة على الرمّان المنثور لأن الممثلة لا الشخصية تُريد ذلك، والرجل الذي يجر العربة، والمريضة التي تجلس في النافذة فيسقط حذائها فيهرع خلفه محمّد عبد العزيز بحركة كاميرا سريعة إلى الأسفل، تلك كانت مواد تجميل تراكمت على وجه نصّ ميّت، ومن البديهي أنّ تجميل الجثّة لا يُعيد إليها الحياة. .
بشار عباس