وقتها ضيق..
لوردا فوزي
“وإن أتت قبل موعدها فانتظرها.. وإن أتت بعد موعدها فانتظرها” كتب محمود درويش هذه الكلمات لامرأة كان قد أحبها وانتظرها إلى آخر لحظة على أمل أن تأتي إلى موعدهما ويتم اللقاء، ولا بد أنها كانت تستحق كل ذاك الانتظار- على الأقل من وجهة نظره- حتى نظم لها قصيدة بطلها الأوحد هو الانتظار، وباعتقادي لو أن درويش عاصر اليوم حياة السوريين لنسي محبوبته تلك – على الرغم مما نظمه عن انتظارها- وقال قوله هذا دون أي تردد في محبوبة أخرى ستسيطر على عواطفه وحواسه، هذه المحبوبة هي “الكهرباء” وما كان سيكتفي بذلك، بل كان سيسترسل واصفاً علاقة أي سوري بها، فنار العشق قد وصلت حد السماء، والشوق للقائها فاض بالقلوب، ولظى الغرام أحرق النفوس، فمن كانت تقيم في ديارنا على الدوام أصبحت لا تزورنا إلا بضع ساعات معدودة، وبناء على مواعيد مسبقة ومحددة، وعلى الرغم من دعوتنا لها للبقاء وتمسكناً أحياناً بتلابيب ثوبها، ترفض ذلك حتى لو كان بقاؤها مجرد خمس دقائق إضافية عن الوقت المحدد الذي منحت لنا بعطفها الكبير، فقد اعتادت تلك المحبوبة منذ حوالي أربع سنوات أن تتعامل معنا وفق ما يسمى “التقنين” فهي تسحب أنوارها جميعها من بيوتنا وفق وقت معروف لنعيش في بعادها في عتمة حقيقية لا يخفف من وطأتها سوى شمعة مشتعلة أو “ شاحن كهربائي”- كان قد سرق بعض النور من ضيفتنا العزيزة أثناء زيارتها القصيرة- ليساعدنا على تخطي الأزمة التي نعيشها في رحيلها وعلينا ألا ننسى حضرة “المولدة “ صاحبة الفضل الكبير لأصحاب الحظ السعيد الذي ما إن تطفأ الأنوار حتى تدار مولداتهم المقتصرة على منازلهم، ليملؤوا غرفهم ضوءاً ويملؤوا حياة جيرانهم ضجة غير محتملة، وهذه “الشلة السابقة” ما هي إلا بدائل مؤقتة لن تطفئ جمر الشوق للقاء المحبوبة التي ما إن تنتهي ساعات التقنين وتعاود القدوم حتى تهل الأفراح وتزاح الأتراح ويزول الهم والغم، وفي بعض الأحيان تقام حلقات الدبكة المرافقة للصفير والتصفيق فرحاً بطلتها، ومجرد أن تنتهي مراسم الاستقبال يبدأ “زمن تحطيم الأرقام القياسية” ومرحلة التسجيل في كتاب غينيس حيث يدخل أفراد الأسرة جميعهم في ماراثون حقيقي لإنجاز شؤونهم- التي ليس من الممكن إتمامها دون الكهرباء- فيهرع الجميع إلى أعمالهم بسرعة جنونية قد تؤدي بعض الأحيان إلى حوادث ارتطام عرضية، ولكن ذلك كله يهون “فدى الكهربا” فهم يعلمون أن زمن حضور الكهرباء محدود ومحدد فهي للأسف “وقتها ضيق” وغير قابل للتمديد.
والحق يقال إننا يجب أن نقول شكراً- لمن في غيابها قدمت لنا ما هو أهم مما في حضورها-فعلى الرغم من قساوة مشهد رحيل الكهرباء، إلا أن غيابها يحيط المكان بألفة أسرية غريبة فمن عتمتها يولد نور ومودة بين اخوة باعدتهم حياة تعج بالملاهي والأَضواء وخلقت الكهرباء-رغم أزمتها- انفراجاً في التواصل الأسري، ولكنني أؤكد أن هذا لا يعطيها المبرر الكافي لتغيب عن منتظريها كل هذا الغياب، وتعذب قلوبهم الظمأى فإن كان محمود درويش قد انتظر محبوبته التي لم تأتِ وأخذ يختلق لها الأعذار، إلا أننا نتمنى ألا يكون حالنا كحال درويش، وألا يجمعنا ذات المصير فالقلب اكتوى من “التقنين” وما عاد له أي طاقة على احتمال المزيد.