شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية كتاب أعده أ.د. أرشال بولاديان سفير جمهورية أرمينيا
يتضمن الكتاب مجموعة وثائق تاريخية مدعومة بالصور الفوتوغرافية تحكي قصة أبشع المجازر التي نفذها الحميديون الطورانيون العثمانيون بحق سكان جميع المناطق والمقاطعات التي سكنها الأرمن وقتل فيها بوحشية أكثر من مليون وخمسمائة ألف أرمني بين عامي 1915-1916م
صدر هذا الكتاب بمناسبة مرور مائة عام على تلك المذابح التي أصبحت اليوم تشكل ذاكرة ووطناً، يتألف من 214 صفحة وهو من منشورات دار الشرق عام 2014 يتضمن سبعة فصول مع ملحق عن خسائر الشعب الأرمني وقرار المحكمة الدائمة للشعوب في جامعة السوربون في باريس 12-16 نيسان عام 1984م.
يقدم الكتاب للقراء العرب مختارات بالغة الأهمية من مؤلفات ثلاثة لشهود عيان هم: المحامي فائز الغصين السوري، نعيم بك التركي، والأب اسحق أرملة تتحدث كلها عن الفظائع التي ارتكبها قادة حزب تركيا الفتاة ضد الشعب الأرمني في الإمبراطورية العثمانية، وتعتبر هذه المذكرات من أصدق الوثائق لأنها أقدم شهادات لشاهد عيان باللغة العربية تسجل الأحداث التي ألمت بالشعب الأرمني في كنف الإمبراطورية العثمانية.
أليس بالإمكان رواية ما كتبه هؤلاء الشهود في هذه الزاوية الصحفية لذلك سوف نختار مقتطفات تعطي فكرة عما حدث، تاركين لمن يهتم بتاريخ الإبادة الأرمنية أن يعود للكتاب.
شهادة المحامي السوري فائز الغصين
ألف فائز الغصين 1883-1968 كتاباً بعنوان المذابح في أرمينيا طبع في حلب عام 1991 م وقد ضمنه مشاهداته عندما كان قائم مقام في ولاية خربوط خاربيرت ومما جاء فيه: أخبرني أحد أفراد المتطوعة في ديار بكر كيف كان يساق الأرمن للقتل فقال: استأجرت الحكومة في ولاية سيواس قصابين بأجرة يومية لذبح الأرمن.
وكان أفراد الدرك يفرقون كل عشرة من الأرمن على حدة ويرسلون واحداً بعد الآخر إلى القصابين الذين كانوا يذبحونهم ذبح الغنم، وكان أفراد المتطوعة يربطون الأرمن رجالاً ونساء ويلقونهم من أماكن عالية إلى الأسفل فلا يصلون إلا جثثاً هامد محطمة، وفي ديار بكر كانوا يقتلونهم رمياً بالرصاص والسيوف والخناجر وبواسطة القصابين وتارة يرمون بكثير منهم في الآبار والمغاور ويسدون أبوابها فيموتون جوعاً واختناقاً وكان الأتراك في ولاية بتليس يجمعون الأرمن في المعالف ويضعون التبن في أبوابها ويضرمون النار فيموتون من الدخان.
وقد قتل ألفا أرمني دفعة واحدة بمحل خارج ديار بكر بين قصر السلطان مراد ونهر دجلة الذي لا يبعد عن المدينة أكثر من نصف ساعة، وقد أخذت هذه المعلومات من الضباط والأطباء ومن الأهالي الذي رأوا المجازر بأعينهم وقد نقل لي أهل وان وأهل تبليس الذين نزحوا من بلادهم عند احتلالها من قبل الجيوش الروسية قصصاً لا تصدق عن تقتيل الأرمن وإفنائهم ص 90-91 من الكتاب.
شهادة نعيم بك التركي
ألف نعيم بك التركي كتاباً بعنوان مجازر الأرمن شهادات ووثائق طبع في بيروت عام 1986 إعداد باروير يريتسيان وكان يشغل سكرتيراً أول لدى مدير عام مساعد لشؤون المنفيين عبد الأحد نوري وبحكم وظيفته تمكن من متابعة أحوال المنفيين الأرمن من جميع الولايات ورؤية مشاهد رهيبة عن كيفية إبادتهم بطريقة لا يصدقها العقل.
وحسب معلومات نعيم بك كان قبل التهجير إلى المكان الذي حدد للأرمن كمنفى يتم الفصل بين النساء والرجال فكان الرجال يتعرضون لإبادة تامة أما النساء فكن يواجهن حالات من المتاجرة أو بيعهن سبايا، ولن أنسى أبداً تلك الليلة وكنت لدى القائم مقام يوسف ضيا بك وفي الخارج كنا نسمع عويل وأنين هؤلاء البؤساء، وكنا أمام مشهد أفظع بكثير حيث كانت الكلاب تنهش جثث بقايا الأرمن البؤساء الذين أبعدوا نفياً، وحين كنت في رأس العين لم أستطع فهم أهداف هذه الجرائم التي كنت أراها بعيني وفي كل مرة كنت أسجل فيها أوامر مرسلة بالشيفرة كنت أرتجف لقد حكم بالموت على أمة كبيرة بنسائها وأطفالها.
في تشرين الثاني عام 1915 وصلتنا بالشيفرة برقية من وزارة الداخلية سلمت إلى عبد الأحد نوري بك فاجتمع في مكتبه مع أيوب بك وقائد الدرك أمين بك ودام اجتماعهم ساعة تقريباً وكان موضوع محادثتهم كيفية إبادة الأرمن، وكان أيوب بك يؤيد الإبادة الصريحة المكشوفة دون تستر لكن عبد الأحد نوري بك وكان رجلاً خبيثاً جداً رفض هذا الرأي وقال: إن الأفضل تعريض المنفيين الأرمن إلى المجاعة فيموتون، وبهذا الشكل يمكن القول إنهم ماتوا ميتة طبيعية فكدسوا ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألفاً من الأرمن وأجبروهم على التحرك مشياً على الأقدام في مسيرة طويلة إلى مكان بعيد، وكانوا خلال هذه الرحلة يتعرضون إلى الجوع والحرمان والبرد فبدؤوا يتساقطون أمواتاً على طول الطريق، ثم انتشر التيفوس ناشراً الموت في كل المناطق فكان القائم مقام والموظفون يرسلون إلينا كل يوم تقارير عن الوفيات وخاصة في غاطما وكيليس واكسرين والباب وحلب الخ، وكانوا يقولون إن الموت لم يكن يصيب الأرمن فحسب بل كان يوقع ضحايا بين السكان المحليين فقلت لنوري بك: يا حضرة البيك لنخفف قليلاً إرسال المنفيين لأن الموت لم يهدد الأرمن ولكن كل سكان ما بين النهرين، هكذا لن يبقى سوى الأشباح في هذه الأراضي الواسعة، وقد أرسل لنا قائم مقام رأس العين التماساً بهذا الصدد فابتسم نوري وقال: يابني بهذا الشكل نبيد في آن واحد عنصرين خطرين أليس الذين يموتون مع الأرمن هم العرب وهكذا نمهد الطريق نحو التتريك.
ولم أقل شيئاً إن هذا الجواب المخيف جعلني أرتجف وتساءلت ما الذي يشجع هذا الرجل كي يواصل هذا المشروع المجرم والرهيب دون خوف أو وجل، ثم اكتشفت نسخة من أمر سري كان بين الأوراق السرية لإدارة المنفيين يأمر بالإبادة العامة للأرمن ص 97-99 من الكتاب. بعد ذلك يورد المؤلف الكثير من الوقائع المخيفة وبرقيات من وزارة الداخلية بإبادة الأرمن فمثلاً يورد في الصفحة 102 مرسوماً إلى ولاية حلب بتاريخ 9 أيلول 1915 يقول: لقد ألغي حق الأرمن في العيش في أراضي تركيا إلغاء تاماً وإن الحكومة التي تتحمل كل المسؤوليات بهذا الصدد قد أمرت حتى بعدم ترك الأطفال الذين هم في المهد، وشوهد في بعض المقاطعات تنفيذ هذا المرسوم، وهكذا ولأسباب نجهلها تجري استثناءات لبعض الأفراد الذين بدلاً من أن يرسلوا إلى المنفى يتركون في حلب فالنساء والأطفال مهما كانت أسبابهم من غير المقبول أعذارهم حتى لو لم يكونوا قادرين على المشي أخرجوهم ولا تتركوا مجالاً للسكان للدفاع عنهم وتفضلوا بإبلاغي في كل أسبوع بنتائج نشاطكم في تقارير بالشيفرة.
وكان اعتقال الأرمن في مكان يسمى قارلك وهو مرتفع سيء السمعة يبعد عن حلب عشرين دقيقة كانت حياة الأرمن الذين كانوا هناك تتوقف على أهواء عريف أو دركي تركي مكلف بعمليات الانتقال ص 103 والواقع كلما أردت أن أختم هذه المقالة أكتشف في هذا الكتاب صفحات من تاريخ شعب لا يمكن تجاوزها دون الإشارة إلى مضمونها ولو باختصار شديد.
فمثلاً نجد في الصفحة 116 برقيتين من وزارة الداخلية إلى ولاية حلب الأولى برقم 745 تقول: علمنا أن بعض مراسلي الصحف الذين يتجولون في منطقتكم قد حصلوا على صور فوتوغرافية تمثل وقائع مفجعة وسلموها إلى القنصل الأمريكي في مدينتكم اعتقلوا وقتلوا هؤلاء الأشخاص (11 كانون الأول 1916 وزير الداخلية طلعت).
أما البرقية الثانية فكانت برقم 8009 إلى ولاية حلب تقول: علمنا بأن ضباطاً من الأجانب يشاهدون عبر الطريق جثث الأشخاص المعلومين (الأرمن) أوصيكم بإصرار أن تدفنوا فوراً هذه الجثث وأن لا تبقوها مرمية على الطرقات- 29 كانون الأول 1915 وزير الداخلية طلعت)
وهناك برقية برقم 691 إلى ولاية حلب ص 118: أبيدوا بوسائل سرية كل أرمني من المقاطعات الشرقية قد تعثرون عليه في منطقتكم (23 تشرين الثاني 1915 وزير الداخلية طلعت) وهذا منه كثير ومؤلم لا يمكن لهذه المقالة استيعاب ما جاء في الكتاب عن الإبادة الأرمنية، لكن الأرمن لم يبادوا وانتفضوا من خلال أنهار الدماء ليبعثوا من جديد كما انبعث طائر الفينيق من فوق الغيوم، وكما انبعثت العنقاء من تحت الرماد، وهم اليوم يزهرون حيثما وجدوا في أنحاء العالم كما أزهر دم أدونيس أزهار (شقائق النعمان) في حقول القمح الخضراء نعم لقد استطاع هؤلاء الذين نجوا من المذابح والمجاعة والنفي والتهجير أن يتبؤوا أعلى المناصب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات التي هجروا إليها، لكنهم لم يذوبوا فيها كما ذاب غيرهم من المهاجرين في أوروبا وأمريكا وغيرها، ولم ينسوا ذاكرتهم وظلوا متمسكين بلغتهم وعاداتهم وتراثهم وتقاليدهم جيلاً بعد جيل مهما طال الزمن ولسان حالهم يقول:
ولي وطن آليت ألا أبيعه وأن لا أرى غيرى له الدهر مالكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه لها جسد وإن بان غودر هالكا
د. منى الياس