نظرية كل شيء:انظروا إلى النجوم وليس إلى أقدامكم
ربما اتفقنا مع هوكينغ في آرائه، وربما خالفناه، لكن هذا لا ينفي أنه كبير وقدير كعالم وكإنسان، ومثال لقوة الإرادة والقدرة على تجاوز المحن، ستيفن هوكينغ الذي يعدّ أحد أبرز علماء الفيزياء النظرية في العالم، تخرج من جامعة أوكسفورد بدرجة الشرف الأولى في الفيزياء، وتابع دراسته في كمبردج للحصول على الدكتوراه في علم الكون، حيث قدم أبحاثاً تدرس العلاقة بين الثقوب السوداء والدينامكيا الحرارية، ودراسات أخرى في التسلسل الزمني، جاعلاً من الفيزياء المعقدة مادة أكثر قابلية للفهم وأكثر سهولة من خلال سلسلة كتب للأطفال قدمها بالتعاون مع ابنته تشرح الكون بطريقة درامية مبسطة ومدهشة، بينما دخل كتابه”موجز تاريخ الزمن” كتاب غينيس كونه الأوسع انتشاراً والذي ترجم إلى أكثر من 40 لغة وحوّله المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ إلى فيلم عام 1991.
في العام 2013 تعرض هوكينغ صاحب المقولة الشهيرة:”انظروا إلى النجوم وليس إلى أقدامكم” لأشرس حملة تشهير من قبل إسرائيل، عندما ألغى مشاركته في مؤتمر علمي يرعاه شيمون بيريز في القدس، ما أثار غضب الإسرائيليين الذين شنّوا عليه “مهرجان كراهية” وصف خلاله بالعاجز والمشلول الذي حان وقت موته”.
بين المرض والإنجازات
تدور أحداث الفيلم في الستينيات حيث يلتقي ستيفن الطالب في كلية العلوم وجين التي تدرس الآداب والفنون خلال حفل لطلاب الجامعة، تسارع صديقتها وتقول:”ابتعدي عنه إنه ممل، لا أعلم ما يعمل لكنه يشارك في مظاهرات حظر القنابل” يتبادلان الحديث قليلاً وقبل رحيلها تترك له رقم هاتفها.
ورغم الاختلاف في الأفكار والمعتقدات حيث جين متدينة ترتاد الكنيسة بشكل منتطم، بينما ستيفن يشكك بوجود خالق للكون، تسأله:”هل تتنقل بين الأديان؟ فيجيبها:”لدي مشكلة مع فكرة الديكتاتور السماوي المفترض” ويرى أن عالم الطبيعة لا يستطيع ترك حساباته تتعرض للتشويش عبر الإيمان بخالقٍ خارق للطبيعة.
في هذا الوقت يعرف ستيفن بالتحديد موضوع تخرجه، ويقرر إيجاد معادلة تجيب عن كل الأسئلة وتحل إشكالية الزمن” نظرية كل شيء” ولكن، وقبل مشاركته بالمحاضرة التي دعي إليها من قبل البروفيسور المشرف على دراسته تبدأ أعراض المرض بالظهور، فيبدأ التعثر في مشيته، ويعجز عن صعود الأدراج وحيداً ويخبره طبيبه بمرضه “التصلب العصبوني” الذي يدمر خلايا المخ التي تتحكم بحركة العضلات الرئيسية تدريجياً وصولاً إلى انعدام التحكم الإرادي بشكل تام، ويعطيه معدل حياة لا يتجاوز السنتين، يسأل طبيبه:”وماذا عن الدماغ” فيجيبه:”الدماغ لن يتأثر، الأفكار لن تتبدل، لكنك لن تستطيع إخبار أحد بها”.
يحاول ستيفن الانعزال عن العالم ويفقد شغفه بكل شيء سوى العلم، لكن جين لا تستسلم وتقتحم عزلته رغماً عنه:”ماالذي تفعله”؟ تسأل فيجيبها:”أحاول اكتشاف الاحتمالات الرياضية للسعادة”.
– وما ذا وجدت؟ فيردّ يائساً:”إنه رقم قريب من الصفر”، ورغم ازدياد سوء حالته يقررا الزواج وإنشاء أسرة وينجبا أول أطفالهما بينما يعمل هو على مشروعه”الزمن” ويقدم أطروحته شارحاً فيها أصل الحياة، التي يراها بدأت من ثقب أسود تلاشى مع الوقت.
وتمضي الأيام متجاوزة السنتين، لكن حاله يزداد سوءاً وصعوبة ويبدأ الاستعانة بالعصا الخشبي ثم الكرسي المتحرك فكرسي أكثر تطوراً، يخونه جسده لكنه يستمر في استغلال كل لحظة تمر به ويفجر مفاجآته للدارسين ويوقعهم بين ذهول الاكتشاف وحيرة التحليل.
تنجب جين طفلها الثاني فتزداد الضغوطات حولها بين العناية بطفليها وبين الاهتمام بستيفن الذي يرقبها ويشعر بها دون أن يستطيع المساعدة فتقترح عليها أمها العودة إلى فرقة الترتيل الكنسي فيدخل جوناثان مدرس البيانو حياة الاثنين، بعد أن يعرض مساعدته، لتنشأ بينهما عاطفة خفية وصامتة يلحظها ستيفن، وتُشعِر جوناثان بالارتباك والضغط فيغادر العائلة، بينما تحمل جين طفلها الثالث، في هذا الوقت يتعرض ستيفن لعارض صحي يفقدة القدرة على الكلام بشكل نهائي بعد ان يضطر لثقب حنجرته وتركيب أنبوب يساعده على التنفس، الأمر الذي شكل تحدياً جديداً للعائلة ولجين شخصياً فتلجأ للاستعانة بممرضة تساعد في التدريب على اختراع يستطيع من خلاله ستيفن اختيار كلمات وجمل ينطق بها عوضاً عنه صوت آلي، تتوطد العلاقة بين إيلين والزوج بالرغم من وضعه الصحي ويتقاربان بشكل كبير؛ ما يتسبب بصدامات بين الزوجين بعد أن أصبح يعتمد عليها كلياً في المنزل وخارجه، وخلال مشاركاته ورحلاته العلمية، ويتم الانفصال فتتزوج جين من جوناثان، لكنه لا ينسى دورها ويمنحها شرف لقاء ملكة انكلترا التي استقبلتهما وكرمته بمنحه وسام ولقب الفارس.
أقرب للحقيقة
اقتبس السيناريو بالكامل عن مذكرات جين وايلد هوكينغ زوجة ستيفن”السفر إلى اللانهاية” التي رفضت طويلاً تجسيد حياتها الشخصية على الشاشة، ولم تعط موافقتها إلا بعد إجراء تعديلات كثيرة على السيناريو فيولد الفيلم بإخراج”جيمس راش” وتنساب مشاهده ببساطة وسلاسة متميزة، بتفاصيل دقيقة وحساسة، تميزت فيه”فيليستي جونز” التي أدت دور الزوجة ببراعة دفعت جين بعد مشاهدتها العمل لتقول:”شعرت كما لو أنني أنا المرأة التي على الشاشة” أما”إيدي ريدماين” الذي جسّد دور هوكينغ بحرفية عالية، فقد أتت حركاته وإيماءاته وأسلوب نطقه الثقيل للكلمات وتجسيده مراحل تطور المرض بشكل جعل هوكينغ يصرّح قائلاً بعد حضوره الفيلم:”لقد أحسست كما لو أن هذا حقيقياً بالفعل”.
الفيلم الذي رشح بطلاه لأوسكار أفضل ممثل وممثلة بالإضافة إلى أفضل موسيقى تصويرية وأفضل سيناريو مقتبس، بعد حصوله على جوائز عدّة من “بافتا” البريطانية، جاء نوعاً من تجسيد سيرة ذاتية لحياة العالم هوكينغ إلا أنه لم يركز بشكل تام على الناحية العلمية، بل أتى كرسالة تدفع للسير قدماً وتجاوز الصعوبات، مسلطاً الضوء على الجانب الإنساني للعالم وحياته العائلية، مظهراً الدور الكبير والمؤثر لزوجته على حياته العلمية، الأمر الذي أثار امتعاض الكثير من المهتمين بالعلوم الفيزيائية، ما أسبغ على الفيلم صبغة اجتماعية وإنسانية استقطبت شرائح واسعة ومتعددة من محبي السينما.
بشرى الحكيم