مصر تودع شاعر الصعيد والغلابة عبد الرحمن الأبنودي.. جمع القطن والسنابل ورعى الغنم وكتب الشعر
“هو مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية في التعقيد وقمة البساطة بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء.. هو السهل الممتنع الذي ظن البعض أن تقليده سهل وتكراره ممكن”.. بهذه الكلمات وصف الكاتب الصحفي محمد توفيق الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي في كتابه “الخال” الذي تناول فيه سيرة هذا الشاعر الذي رحل منذ أيام، وقد عرف بشاعر الصعيد وشاعر الغلابة وبكاتب السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد ولم يؤلفها ليعدّ من أشهر شعراء العامية في مصر، وليكون أول شاعر عامية مصري يفوز بجائزة الدولة التقديرية عام 2001 ليبين الأبنودي في أحد حواراته أنه وغيره لجؤوا إلى العامية لمخاطبة شعوبهم وتنوير القطاعات الواسعة دون أن يكون القصد الوصول بشعر العامية إلى قصيدة نثر التي لا وجود لها في تراثنا برأيه، مشيراً إلى أن علاقته بالشعر الشعبي خاصة، وبالمواويل قد بدأت منذ طفولته المبكرة إلى أن استوقفته السيرة الهلالية ورجالها، وقد أسفر حبه لهذا العمل الشعبي عن إصدارها في عدة أجزاء، فكان من أبرز فرسان السيرة الهلالية وقد أفنى جزءاً كبيراً من عمره في جمعها وتحقيقها متنقلاً بين ربوع مصر والعالم العربي وصولاً إلى دول أفريقية، لأنها كانت كما يشير دائماً سيرة تحكي تاريخ العرب وقصة فارس عربي مفتقد في الأمة العربية ككل.. إنه أبو زيد الهلالي الرجل الذي نذر نفسه وعمره ومستقبله فداء لأهله من أجل ألا يموتوا جوعاً.
عرف الشقاء وعايشه
كانت الطبيعة أماً لموهبة وتجربة الأبنودي، وكان عندما يشعر بالفراغ الفكري يذهب إلى قريته أبنود جنوب الصعيد لاستعادة الذاكرة مؤكداً أنه كان على صلة دائمة بقريته، يزورها في المناسبات السعيدة وغير السعيدة، منوهاً إلى أن تجربته في أبنود جعلته مختلفاً عن سائر الشعراء، وهي تجربة لم يتحدث عنها عن بعد، وإنما عايشها لأنه كان أحد أولئك الفلاحين الذين عرفوا الشقاء ولم يشاهدوه من خلف نافذة زجاجية، فعندما كان صغيراً لم يتجاوز الثمانية أعوام كان يذهب إلى الغيط لجمع القطن، وإلى الحطابين لجمع السنابل من بقايا الزرع، وكان أيضاً راعي غنم ويذهب إلى النهر ليصطاد سمكته لكي يعيش، موضحاً أنه كان فقيراً لكن الغناء كان دائماً يحاصره، كيف لا وأبنود “هي التي جعلت مني شاعراً، حيث كل إنسان في هذه القرية يغني، فهم يغنون أثناء العمل وفي أوقات الراحة، وأحياناً يستبدلون الغناء بالشعر”.. من هنا كان الأبنودي يكرر دائماً أن لا أحد أثر فيه أدبياً أو فكرياً لأنه كان ابن مدرسة الفلاح المصري الصعيدي وأبيه وأمه: “إنهم محبرتي اللي عمر مدادها ما خانني! والذي لا ينتهي إذ حينما أحتاج لأن أكون نفسي أمد قلمي في هذه المحبرة”.. ولأنه كان فقيراً وقادماً من منجم فقراء ظل الأبنودي مخلصاً لقريته ولأهلها منذ أن رحل منها، حاملاً على أكتافه همومهم وقضيتهم، فكانت الكتابة بالنسبة له هي من تسهل له أن يفضح المسافة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء حين يتأمل العمال الذين يبنون ويرصفون الطرق والفلاحين الذين يزرعون ولا يجدون قوت يومهم، وحين يفعل ذلك يدرك أن الكتابة مهمة نبيلة للدفاع عنهم، وهو المهموم بكل قضايا الإنسان، وإن كان لا يدعي معرفته بكل هموم العالم، لكن كان يكفيه أن يقوم بقياس الهموم على بسطاء وفقراء قريته أبنود، مؤمناً أن ما يحدث الآن في المجتمع المصري من انهيار وفساد وعدم الإحساس بالظلم يمنحه إيماناً راسخاً بعدالة ما يكتب، وهو الذي لم يخن رؤيته وظل ومنذ عام 1956 وحتى رحيله يكتب، أي على مدار نصف قرن تقريباً، مشيراً إلى أن مهمة المثقف الحقيقي هي هدم وإعادة بناء عقل ووجدان الأمة وإضاءة السبل أمامها رغم صعوبة الأحوال، واختلاط القيم وانهيارها تحت سطوة الإعلام والأغنيات المبتذلة وهذا العالم الفوضوي الاستهلاكي، مع قناعته بأن المبدع الجيد سواء كان روائياً أو قصاصاً أو فناناً تشكيلياً أو حتى كاتب دراما تليفزيونية أو شاعراً قادر على أن يهزم كل هذه البذاءات وقوى التخلف إذا لم يفقد إيمانه بما يقدمه للناس.. من هنا كان الأبنودي يشير إلى أن هناك حالات كثيرة لشعراء توقفوا عن الكتابة، وكان يرى أنه من الشرف عندما يفلس الشاعر أن ينزوي وينطوي على نفسه لا أن يمزق ملابس الآخرين مؤكداً أن إفلاس الشاعر يعود لمحطة الانطلاق في البداية من منطلق غير صادق، فالصدق حالة دائمة لا يمكن أن تنتهي.. ولإحساسه الصادق بكل ما كتبه رفض المرض في سنواته الأخيرة لإيمانه بأنه ما يزال الأبنودي الذي عليه أن يوصل الكلمات إلى أصحابها في أبعد القرى والنجوع: “هذه الكلمات سوف أحملها على كتفي دائماً وأذهب بها إلى أهلي هنا وهناك، بحيث لا يعوقني مرض ولا يجبرني جزء من جسدي على تعطيل المهمة التي نذرت لها نفسي دائماً” .
الشعر عندي نكدي
منذ أن نطق الأبنودي هو وأمل دنقل أول قصيدتين في يوم واحد ظل الوطن هو الأصل والعنوان بالنسبة له، مؤكداً أنه حين يحب أن يكتب قصيدة عاطفية يكتبها أغنية يغنيها مغن، لكن شعره هو مسيرته الحقيقية، وهو الذي يترجم علاقته بالوطن، وقد اعترف مرة أن الشعر عنده “نكديّ” وهو ابن الفترات النكدية وقد ألهمه السادات مثلاً بما لم يلهمه به رئيس آخر لكثرة ما كتب من شعر ينتقد فيها اتفاقية كامب ديفيد.
أما على مستوى الرمز فقد كان الأبنودي يعتبر نفسه أحد الذين عمقوا فكرة المزج بين الوطن والأم سواء كانت الأم مصر أو الأمة العربية أو قضايا الفقراء، لذلك لخص فكرة الأم واستوعب كل المؤنثات في حياتنا، موضحاً أنه لم يكن مطالباً أمام أي أنثى عرفها بأن يكتب عنها أو لها، فالشعر أمر أسمى من ذلك برأيه وأبعد بكثير، وحتى الأغنيات العاطفية التي كتبها فهي لا تشبه حياته وإنما كانت سعياً خلف أنموذج يتحقق في الحلم العام، تلك الحبيبة التي يتمناها للجميع وليس لنفسه فقط، معترفاً أنه كان كتاباً مفتوحاً إذا حاول أحد أن يعقد مقارنة بين ما كتبه سواء في الشعر أو الأغنيات وبين حياته الشخصية والعملية فلن يجد شيئاً، مبيناً أنه كتب أغنيات هجر ولقاء وأمل بلقاء وبدا مثل مغناطيس عشق أو زير نساء، لكنها كما يشير كانت لحظات خيال تومض في الذاكرة وكان يكتب عن الأنثى التي تختصر كل المؤنثات في حياته وحياة الجميع.
قصائد لامست القلوب
يكفي أن نذكر اسم الأبنودي حتى تتداعى إلى ذهن محبيه وعارفيه عشرات القصائد التي احتوتها دواوينه الشعرية وعشرات الأغاني الوطنية والوجدانية التي انطلقت بها حناجر كبار المطربين والمطربات، وهو الذي كتب قصائد وأشعاراً لامست قلوب المواطنين، وحضرت في مواقف الرخاء والظلم، ومن أشهرها “عدّى النهار، أحلف بسماها وبترابها، أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب” لعبد الحليم حافظ و”تحت الشجر يا وهيبة” و”عدوية” لمحمد رشدي و”يمّا يا هوايا يمّا، مال علي مال” لفايزة أحمد و”عيون القلب” لنجاة الصغيرة و”آه يا اسمراني اللون” لشادية و”ساعات ساعات” لصباح وغيرهم بالإضافة إلى أنه كتب أغاني العديد من المسلسلات والأفلام مثل “شيء من الخوف، الطوق والإسورة، البريء”.
ولد الأبنودي في 11 نيسان 1938 في أبنود بمحافظة قنا، وكان ديوان “الأرض والعيال” عام 1964 أول ما نُشر للشاعر الذي أصدر فيما بعد عدة دواوين، منها “الزحمة، جوابات جراحي القط، بعد التحية والسلام، وجوه على الشط، الموت على الإسفلت” إضافة إلى “أيامي الحلوة” الذي نشره في حلقات أسبوعية بجريدة الأهرام، ويضم قصصاً وأحداثاً ومواقف من سيرته الذاتية، ومن أشهر كتبه كتاب “أيامي الحلوة” الذي نشره في حلقات منفصلة في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام الحكومية وقد تم جمعها في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر.
أمينة عباس