ثقافة

“إخوة التراب”. . عندما يكون الكاتب ضمير وطنه

يُعرض الآن على واحدة من قنواتنا الفضائية السورية العمل الدرامي التلفزيوني “إخوة التراب”، تأليف الكاتب “حسن م يوسف”، وإخراج “نجدة إسماعيل أنزور”.
إن من يشاهد أعمالاً درامية تلفزيونية من تأليف الأستاذ “حسن”، يشعر فوراً أنها مختلفة عن باقي الدراما التلفزيونية السورية، فهي لا تعنى بالتشنيع على سكان العشوائيات، ولا بإعادة إنتاج الوهم عن الحارة الدمشقية كفردوس مفقود بملامح وهابية، كما أن أعماله غير مهتمة أبداً بالترويج لشخصيات نسائية شابة , كما شاهدنا في العديد من المسلسلات التي راجت مؤخراً.
وعلى خلاف ما سبق تبقى نصوص الكاتب “حسن م يوسف” تعنى بشأن وطني عام، وتتعامل مع شخصيات ملحمية مرسومة بعناية، ففي “إخوة التراب” يرتقي الكاتب بعقل الجمهور السوري كله، عارضاً لهم مرحلة خطيرة من تاريخهم، كاشفاً لهم من خلال شخصيات جيدة البناء والتأسيس والملامح عن قسم مأساوي من تاريخهم يرتبط بالحرب العالمية الأولى، معيداً ساحة الحجاز التي يظن الجيل الجديد أنها بناء أثري عادي يقع على مفترق طرق، ويعج بالباعة الجوالين، إلى تلك اللحظة المأساوية عندما سيق فيها الشباب السوري إلى حرب لا تعنيهم تحت حراب الاحتلال التركي للبلاد، ومن خلال ثنائية الأخ وأخيه يظهر كيف أن أخاً سورياً عربياً وجد نفسه مع الجيش العثماني، والأخ السوري العربي الآخر يحارب مع الجيش الانكليزي بعد وقوعه في الأسر، كما يعيد أيضاً “يوسف” تقديم الجغرافيا السورية فيربطها بالجغرافيا الفلسطينية عندما يصار إلى نقل الشباب السوري من دمشق إلى غزة تمهيداً لوصولهم إلى قناة السويس أو “الترعة”، كما كانت تعرف نسبة لحرب حملت اسمها، في مشهد قطار الموت الذي يخترق الآفاق بكاميرا “نجدة أنزور” الخلابة، مظهرة جغرافيا سورية متنوعة بين دمشق والسويداء والساحل وعاليه وغزة، تقدم سورية كلها في عمل درامي ملحمي واحد.
“إخوة التراب” يعتبر أول تعاط درامي جدي مع فئة الحروب، وذلك يعني أن الكاتب كان يقرع أجراس الخطر لسنوات طويلة قبل هذه الحرب الطاحنة التي نحيا على إيقاعها الآن، وهنا الكاتب يقوم بالتعبير عن هم وطني، يستشرف فيه قادم الأيام التي أثبتت صحة مقولات عديدة وردت في العمل، من مثل “عدو جدك ما بيودك”، أو “الانكليز متل البرد سبب كل علة”.
كما يكشف الكاتب من خلال تفاصيل بسيطة وكثيفة مثل الخازوق عن الوجه الحقيقي لهمجية ذلك العثماني، ويبين أيضاً نضالات السوريين للخلاص منه، فتظهر من بين شخصيات العمل شهداء السادس من أيار، وأيضاً يركز على معاناة الأم السورية في تلك الحرب، وما قاسته ليس على الصعيد العاطفي فقط، بل أيضاً على الصعيد الوطني والاجتماعي والحياتي المعاش لحظة بلحظة.
في “إخوة التراب” اشتغل الكاتب على عدة عناصر فنية تعتبر من أهم مقومات نجاح العمل الدرامي، وهي مراعاته بدقة وبعقلية الباحث الوثائقي لتفاصيل وظروف ذلك الزمان، حيث دخلت حينها “تركيا” الحرب مع ألمانيا، وهذا ما يظهره مشهد الضابط الألماني الذي يلقي بأوامره على الضباط الأتراك، ويظهر أيضاً تفاصيل قطع الخط الحديدي الحجازي، كما أنه يكشف بطريقة أقرب إلى السينمائية منها إلى التلفزيونية عن شخصية “جمال باشا السفاح”، حيث أدى حُسن تعامل الكاتب مع هذه الشخصية المركبة في النص إلى ولادة نجم، وهو الممثل السوري “فايز أبو دان” الذي أدى وببراعة دور “السفاح في إخوة التراب، ذلك أن الشخصية المكتوبة بعناية وبدراية تتحدى الممثل أن يكون على مستواها، وعندما يكون بارعاً تولد ظاهرة النجم.
“إخوة التراب” من الأعمال الدرامية السورية التي ستبقى خالدة في وجدان المتفرج السوري والعربي أيضاص، على اعتبار أن البلاء الذي يحل بعالمنا العربي وبوطننا لم تتغير أدواته منذ ذلك التاريخ، وهذا ما كان ينقص أعمالنا الدرامية على أنواعها “التلفزيونية– السينمائية – المسرحية” التي ذهبت نحو تكريس السطحية والنمطية الاجتماعية من خلال تقديمها للعديد من الأعمال التي تعتمد في فرجتها على ما يرضي ذائقة متخلفة لشريحة من المشاهدين الذين لا تعنيهم القضايا المصيرية بقدر ما تعنيهم المكائد النسائية، وانكباب رجال الحارات على الانشغال في تفاصيل تافهة صارت معروفة وواضحة لكثرة ما أشير إليها في الصحافة السورية غير مرة، وما تتضمنه هذه الذائقة من خلل في نظرتها إلى الواقع العربي في تغيير دراماتيكي لحقيقة الصراع العربي الصهيوني، وتحويله لصراعات داخلية حتى في الأسرة الواحدة، الأمر الذي عايناه في بعض مفاصل الحرب التي يخوضها السوريون اليوم، والتي وللأسف الشديد في جانب منها نشاهد ترجمة عملية لما حدث في بعض أعمال البيئة التي قدمها كُتاب من غير المعقول وغير المقبول أن يكونوا جاهلين بمآلها ونتائجها، وهنا تبرز أهمية الكاتب الحقيقي الذي يضع في الحسبان أن كل حرف ينطقه على الورق هو مسؤول عنه مسؤولية وطنية وتاريخية، لا أن يكتب حوارات بلهاء غير معنية بمنطق الصورة التي يقدمها ذلك العمل أو غيره.
تمام علي بركات