ثقافة

في ذكرى الغياب: “نزار قباني” بالشعر فجَّر عصراً وغيّر كوناً وأشعل ناراً

الحديث عن الشاعر نزار قباني يشبه الإبحار في عرض محيطٍ شاسعٍ، والمتحدث عنه لا بدّ وأن يكون رباناً مغامراً.. كيف لا وهو الشاعر المحلِّق الذي انتظمت قصائده في عناقيد ملونة، والمشقة تأتي بالدرجة الأولى من محاولة رصد أعماله والمحاور العديدة التي دار شعره حولها في مسيرة إبداع تواصلت لأكثر من نصف قرن.
بهذه الكلمات بدأ الباحث محمد مروان مراد حديثه عن نزار قباني الذي راهن على الحب والحرية وكسب الرهان من خلال المحاضرة التي ألقاها مؤخراً في مركز ثقافي “أبو رمانة”.
بلبل الشرق المغرِّد
أكد مراد أن قباني وحده استطاع أن يحظى بجماهيرية واسعة وأن يكون بلبل الشرق المغرِّد لأكثر من خمسين عاماً، والسبب برأيه أنه أقام مدرسة جديدة في الشعر العربيّ، رسَّخ بنيانها على أسس من الإيمان بالشعر الذي رآه حاجة إنسانية معبّرة عن أدق خلجات النفس البشرية والجسر من الكلمات الجميلة الذي نمدّه إلى الآخرين: “عندما لا يكون هناك جسر لا يكون هناك شعر” مشيراً مراد إلى ما كان يردده قباني بأنه الناطق الرسميّ باسم مئتي مليون عربي وأن الشعر إذا لم ينزل إلى الشارع ولم يختلط بالناس وأحزانهم ومدامعهم لا يكون شعراً، وهو المؤمن دائماً بأن الشعر يجب أن يبقى ماءً جارياً لا ماء معبّأ في زجاجات، وأن على الشاعر أن يكون برقاً يعرف متى يظهر ومتى يختفي، فالشعر ليس ترفاً بل ضرورة اجتماعية لتحرير الإنسان من القهر والتخلّف. من هنا بيّن مراد أن قباني تشبّث برسالته في التغيير طوال مسيرته: “أحاول بالشعر إنهاء عصر التخلّف حتى أؤسس عصراً جديداً من الورد والجلنار، أحاول بالشعر تفجير عصر وتغيير كون وإشعال نار”.
خارج عن قانون الشعر
ولإيمان قباني بالشعر، أشار مراد إلى أنه شقَّ درباً جديدة مختلفة تماماً عما عهده الناس، فأقدم غير هيّاب متسلحاً بعناصر فنية غير مألوفة في الشعر قبلاً: (لغة خصوصية، صور مبتكرة، أسلوب جريء، موسيقا خلابة) ومن هنا كان متمرداً وخارجاً عن قانون الشعر، وكان يردد دائماً: “أنا لا أعتبر القصيدة قصيدة إلا إذا أحدثت ثقباً في غلاف الأوزون لأن القصيدة التي لا تحاكَم ولا توضع في السجن الانفرادي ولا تُجلَد مئة جلدة على ظهرها قصيدة مسكينة، القصائد المتمردة وحدها تعيش أكثر، وبدون الخروج على القانون لا توجد قصيدة جميلة ولا وردة جميلة ولا امرأة جميلة”.
دمشق سلبت عقله
وهب قباني روحه وفكره للحب وقد لثمته دمشق أول قبلة، وهي المدينة التي لا يستطيع أن يكون فيها محايداً وقد أصبح ياسمينُها جزءاً من دورته الدموية، فهذه المدينة –كما أوضح مراد- كانت تخضّ قباني وتشعله وتضيئه وتكتبه وترسمه باللون الورديّ، تزرعه قمحاً وشعيراً وحروفاً أبجدية، تجدده، وحين تقبّله على فمه يتغير تركيب دمه: “دمشقيتي هي نقطة ضعفي وقوتي معاً، مستوطنة في صوتي وفي حبري وفي دفاتري” مشيراً مراد إلى أن دمشق سلبت عقل قباني وقلبه وسيطرت على مجامع تفكيره فامتزج هواها بنبض روحه:
“هذي دمشق وهذي الكأس والراحُ              إني أحب وبعض الحب ذبّاحُ
أنا الدمشقيّ لو شرحتمُ جسدي                    لسالَ منه عناقيد وتفاحُ” .
راهب في معبد المرأة
ولأن الحديث عن قباني لا يمكن أن يكتمل إلا بالحديث عن تعلّقه بالمرأة بيّن مراد أن المرأة كانت بالنسبة له الدنيا كلها، هي التي أعطته الشعر والقلق والجنون وأخذت ضلعاً من أضلاع صدره وصنعت منه مشطاً تتمشط به، ولطالما تساءل قباني: “هل المرأة أصلها قصيدة أم القصيدة أصلها امرأة؟ سؤال كبير مازال يلاحقني منذ احترفتُ حبّ المرأة والشعر.. سؤال لا أريد له جواباً لأن تفسير الأشياء الجميلة يقتلها” ليتحول برأي مراد في فترة من الفترات إلى راهب في معبد المرأة:
“شكراً لحبّك فهو أكرمني وأدّبني وعلّمني علوم العالمين
واختارني ملكاً وتوّجني وعمّدني بماء الياسمين”.
ويختم مراد كلامه مبيناً أنه برحيل قباني طوى الطائر جناحيه وعاد إلى عشّه القديم دمشق، وكانت ترانيمه تقول: “لقد راهنتُ على ديمقراطية الشعر فنجحتُ، وراهنتُ على بساطة اللغة فنجحتُ، وعلى وجدان الجماهير فنجحتُ، وعلى حرية المرأة وحرية الحب فنجحتُ”.
أمينة عباس