ثقافة

منزل الجميلات النائمات: عندما تعرّي الرواية كاتبها..

ربما فقدت الرواية الكثير من جمالياتها، فغاب الكثير من رموزها وإشاراتها والمعاني المتوارية خلف الكلمات الأصيلة، كما في أغلب الأعمال الأدبية المترجمة، لكنها مع هذا بقيت تحمل من المفاجآت الكثير، “منزل الجميلات النائمات” رائعة ياسوناري كاواباتا الحائز على جائزة نوبل عام 1968، كانت سبباً لمهاجمته ليس لشيء سوى أنها لم تأت كما انتظر القراء منه بعد رائعته بلد الثلج التي اعتبرها النقاد ” تحفته الأدبية” التي رسخته كأبرز الكتاب اليابانيين، كاواباتا درس العلوم الإنسانية وتخصص في اللغة الإنكليزية، ثم اتجه إلى الكتابة مبكراً فنشر في الصحف قصصه القصيرة التي لفتت أولها “مشهد من جلسة أرواح” الأنظار إليه، وفي العام 1926 كتب “راقصة إيزو” تلاها “بلد الثلج” لتتلاحق بعدها أعماله، طيور الكركي، صوت الجبل، جمال وحزن، والعاصمة القديمة.

المنزل السري والأسطورة
والرواية، تجسيد للقصة التوراتية المعروفة والأسطورة القديمة التي تكررت في العديد من ثقافات الشعوب، والتي تقول إن الفتيات الصغيرات هن الإكسير القادر على إعادة الشباب للأجساد الهرمة.
يعيش بطل الرواية “ إيغوشي الأسطورة من خلال زياراته إلى المنزل السري الذي يقع في إحدى ضواحي طوكيو بالرغم من أنه لم يتجاوز السابعة والستين ويعلم أنه مازال يحتفظ ببعض من قدرات الشباب، لكنه قرر أن يخوض التجربة التي مر بها صديقه العجوز “كيغا” والمنزل يتيح لزبائنه إطلاق العنان لمخيلاتهم وأفكارهم والتساؤلات، وعيش قدر كبير من الأحلام والذكريات من خلال ساعات قصيرة يقضونها قرب جسد جميل فتي تم تخديره “وما الذي يفعله عجوز خائر القوى في هذه الحال سوى الحلم واجترار الذكريات الجميلة المؤلمة”.
هذا المنزل تشرف عليه سيدة كبيرة السن قاسية القلب، تثير ريبته وتساؤلاته، تختار زبائنها “رجالاً لا يجلبون لها المتاعب”
“أرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول وضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة! هذا غير لائق!” أوصت المضيفة إيغوشي العجوز، الذي حاول الالتزام بالرغم من اعتداده بنفسه وقدرته على إثارة المتاعب إن أراد، وكما لم ينتظر تعيده رائحة الفتاة النائمة إلى ذكريات له مع أحفاده الصغار ورائحتهم المميزة:
“أمر غريب أن تَمْثُل هذه الذكريات الآن في ذهنه، فهي تعود إلى ماضٍ سحيق، أمر غير معقول أن تثير مثل هذه الذكريات المدفونة في أعماقه فجأة الإحساس بأن هذه الفتاة تفوح منها رائحة الحليب”.
غادر البيت بعد زيارته الأولى غير متوقع العودة، إلا أنه عاد قبل مضي أسبوعين:
–  تقول إنك قادم حالاً، يعني أي ساعة ستكون هنا.
–  فلنقل بعد التاسعة بقليل.
–  يضايقني أن تأتي في ساعة مبكرة كهذه، شريكتك لن تكون قد وصلت بعد، حتى وإن كانت موجودة فلن تكون نائمة.
إيغوشي سيعود مرة ثانية وثالثة ورابعة، سوف يستعيد ماضيه والنساء اللواتي مررن في حياته، والدته، بناته والحبيبات، سيرقد إلى جانب فتيات نائمات يتبدلن كل مرة، يستدعي صوراً غابت عن ذاكرته بينما الأسئلة تأكل رأسه، والرغبات تصارعه يغلبها حيناً وتتغلب عليه أحياناً أخرى. لتنتهي زيارته الخامسة بكارثة غير منتظرة، عندما يستيقظ من نومه فجأة ليكتشف موت الفتاة السوداء الجميلة التي ترقد إلى جواره.
“فتح إيغوشي عينيه، هز رأسه ولكنه كان دائخاً من النوم، استدار ناحية الفتاة السوداء فوجد جسدها بارداً. ارتعش إيغوشي، لم تعد تتنفس، وضع يده على قلبها، لم يعد يخفق. نهض في وثبة واحدة. خانته قدماه فسقط. دخل إلى الغرفة المجاورة وفرائصه ترتعد، التفت من حوله فوجد جرس الاستدعاء قرب التوكونوما، جمع كل مالديه من قوة في إصبعه وكبس طويلاً على الزر، سمع وقع أقدام على الدرج، وتساءل:
“هل أكون قد خنقت الفتاة وهي نائمة دون علم مني”.

الموت من البداية حتى النهاية
وكأنما على كاواباتا مواجهة الموت الذي أحاط بحياته دوماً فلاحقه في الرواية، هو الذي فقد والديه في الثانية من عمره، تبعه موت عمته وشقيقته قبل أن يبلغ العاشرة، وقبل أن يتجاوز الخامسة عشرة من عمره فقد جدّه الذي يرعاه، لم يكن له الأثر الكبير في حياته بينما تكفلت الحرب العالمية الثانية بجعله يكتفي بكتابة المراثي بعد انتهائها، وكغيره من الأدباء اليابانيين المجانين، كما قال عنهم ماركيز، اختار كاواباتا موته عام 1972 خنقاً بالغاز.
في روايته التي أطلقت العنان لخيال إيغوشي وسواه من مرتادي منزل الجميلات، عرّى كاتبنا نفسه مثلما عرّى زوار البيت، وربما من خلالها يروي للعالم ما كان يحلم بقوله علانية وجهاراً.
الرواية التي أتت في خمسة فصول جسّد كل منها زيارة من زيارات إيغوشي إلى المنزل، قدم لها ناشر الترجمة بنصٍ لغارسيا ماركيز يصف فيه المسافرة التي جاورته في الطائرة فيقول:
“كنت قد اعتقدت على الدوام أن لاشيء في الوجود يفوق جمال امرأة جميلة، فبات من المستحيل أن أفلت ولو لدقيقة من سحر هذا المخلوق الخرافي النائم إلى جانبي. كان نومها ثابتاً للغاية حتى أني خشيت أن تكون قد تناولت أقراصاً للموت بدل النوم. تفحصتها عدّة مرات، سنتيمتراً سنتيمتراً، كانت علامة الحياة الوحيدة التي لاحظتها هي ظلام الأحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء”، غارسيا الذي أصابته الرواية بالهوس، وقد قرأها إثر زيارة له إلى اليابان دعاه إليها مجموعة من الأدباء اليابانيين، فكان أن كتب على غرارها رائعته الأخيرة “ذاكرة غانياتي الحزينات”، تحية لكاواباتا الذي أحب..

بشرى الحكيم