“هدنة” فسحة حياة بين الحرب والحرب
“هدنة” اسم العمل المسرحي الذي جاء بتوقيع عدد من نجوم ونجمات خشبة المسرح السوري، فالعرض الذي جاء برعاية وزارة الثقافة –مديرية المسارح والموسيقى، حمل توقيع المخرج المسرحي “مأمون خطيب” وتأليف “عدنان أزروني”، وأطلت فيها كل من الفنانات القديرات “رنا جمول – لينا حوارنة” والفنانة المسرحية الضاجة بالحياة “نسرين فندي” وأيضاً الفنان القدير “جمال نصار”، قدم لجمهور مسرح الحمراء فرجة مسرحية شيقة وشاقة، إن كان في المسرحة الحرفية التي ظهرت على الخشبة بالأداء البارع لكاست الممثلين، أو في الديكور الذي بدا رشيقا ًهذه المرة، حيث قسمت ستائر خلفية المسرح، سيستخدمها المخرج لتكون ممرات للذاكرة التي ستحضر أيضاً من بينها، عندما تستدعي فسحة بين معركتين، ذاكرة”هادي” الجندي المرابض على واحدة من نقاط الخدمة، رافضاً الانسحاب، قبل أن يكمل مهمته، وفي انتظاره الأكيد لاشتباك آخر، تبدأ ذاكرته بالتداعي واستدعاء الشخوص الذين ربوا حياته وكان لهم كبير الأثر في تشكيل وعيه، الحبيبة التي انتظرت طويلاً على أمل بغد قد لا يأتي، والأم المهووسة بالكمال الأنثوي من باب أنه واجب الأنثى في أطوار حياتها. على النقيض تماماً، تقف الفنانة “جمول” التي أدت دوراً بارعاً في هدنة، إن كان برشاقتها فوق الخشبة وهي تؤدي دور الفتاة المنطلقة في الحياة لتصطدم بجدار واقع يبعده عن أحلامها ويجعلها من اللواتي يعلن حبهن لفضائل الأنوثة بحالتها المعلنة، لكنهن في الطوية يذهبن نحو إطلاق أنفسهن من كل قيد أو شرط من جهة أخرى، طالما أن ما تفعله سيكون مجهولاً. بين الأم والحماة وغياب سلطة الأب “غسان الدبس” إما بالموت أو في انهماكه بكونه من الطبقة المثقفة، البعيدة عن واقعها بحجج غير مفهومة هي من اخترعها وسوّق لها، ينشأ جيل “هادي” أدى دوره “يامن سليمان” و”مريم” أدت دورها “نسرين فندي” في صراع مرير بين واجبات غير منطقية في بعض الأحيان وحقوق تكاد تكون كأحلام اليقظة، لا تحضر إلا متأخرة أو لا تحضر أبداً، ليجد هذا الجيل نفسه أمام ما لم يكن في الحسبان، إنها الحرب التي تستعر في البلاد، و”الحروب تظل فاجعة إنسانية في أيام الهزائم وأيام الانتصارات على حد سواء” كلمة المخرج التي استعارها من “قسطنين سيمونوف” لتحمل في إيحائها إسقاطاً ثقيلاً على واقع يومي معاش، لمجموعة أشخاص، قد يكونون أي مجموعة من بين الجمهور أيضاً، حيث ذهب “مأمون خطيب” في خياره المسرحي هذا العام أيضاً نحو الواقع المعاش الذي تفرضه حالة الحرب الدائرة منذ خمس سنوات، على الناس وعلى رغباتهم وأحلامهم التي تصبح مشروعيتها هي أبعد ما يكون عن اليقين، بعد أن تتأرجح طويلاً بينه وبين الشك، خيار لم يكن بالبعيد عن عمله المسرحي الأخير “نبض” في أجوائه التي عكست واقع الحرب من خلال ثلاث نساء بمعاناتهن، هنا أيضاً سيبقى “مأمون” منسجماً مع تنظيره عن المسرح بأنه ابن الواقع، وهو خيار ذكي على اعتبار أن الجمهور الجالس على مقربة مما يدور على الخشبة، هو نفسه الجمهور القادم من أمكنة قريبة عما يدور من حروب على مقربة منه.
الجندي المرابض في مركزه حيث يحارب في مركزه، هو مهندس معماري، لبى نداء الواجب والوطن، ذهب وترك خلفه وعوداً متبدلة يومياً حسب تبدل أمزجة هذه الحرب وتغير أبعادها ومنعكساتها، ومن خلال شخصية “هادي” سيطل الكاتب على رصد زمن متغيراته النفسية والشخصية من خلال ربط زمنه بعلاقة عاطفية، تجمعه مع حبيبة، هي أيضاً خريجة فنون جميلة، ليعلي الكاتب من شأن الخيال في مواجهة الدمار، بعد أن عجز العقل عن ذلك.
حالات إنسانية واجتماعية متنوعة بموضوعاتها وثيماتها المتعددة، قدمتها “هدنة” في زمنها المسرحي الذي امتد قرابة الستين دقيقة، رافقتها موسيقى “طاهر مامللي” التي جاءت أيضاً قاسية هذه المرة، إن كان في حدة أصوات الحروب التي تطل برأسها خلال انسياب تلك الموسيقى، وأداء مسرحي متقن تخلله شيء من الارتجال المدروس لكوميديا المفارقة.
كان أيضاً من صُناع هذا الانسجام في الأداء”أسامة تيناوي” في دور “عمار” الصديق العتيق للجندي، الذي يقضي ضاحكاً بعد أن أمضى عمره عازفاً عن مزاولة أشغال الحياة بعد أن اكتشف عبثيتها، وكأن الحرب ما هي إلا ردٌ عنيف ومقنع لمن لم يجد في الحياة إلا العبث الذي ينتحل عبثاً آخر.
أمسية مسرحية ممتعة، قدمتها “هدنة” لجمهور مسرح الحمراء الذي ارتاده أيضاً وزير الثقافة بعد أن استقبل العلم السوري الحضور على باب المسرح، معلناً أن هذه فرجة وطنية بامتياز، ستمر على إسقاطات سلبية للعديد من المثالب الاجتماعية التي أوصلتنا في بعض مفاصلها إلى ما نحن عليه الآن، إلا أن ثوابتها هي ثوابت الوطن الراسخة نفسها، جندي صامد وعلم يضحك بنجمتيه الخضراوين، وجمهور صفق طويلاً لما سمع ورأى ولمس.
تمام علي بركات