ثقافةصحيفة البعث

من بالباب

 

كان يجلس مستندا إلى الأريكة ونظره مثبت على الباب المفتوح نصفه، يراقب حركته ذات اليمين و ذات الشمال يتمايل على أنسام الهواء وكأنه يلولح بكلتا يديه, يندب أو يودع أو يهلل ربما.. لعله طقس صوفي.
السيجارة في فمه تذوب مع كل مجَة, يقصر عمرها مع كل نفس يأخذه هو.. لم يحركها من مكانها حتى اختفت قامتها البيضاء ولم يبق إلا الفوهة المستهلكة. على يمينه فناجين قهوة مشروبة حتى آخر رشفة, “التفل” معلّق بداخلها بشكل عشوائي مظهرا خطوطا وطرقات وأسماك رزق وطيور يبدو أنها لا تحمل أخبارا سارَة, هكذا تقول العرافات عادة.
رن الجرس ثم تبعه طرقات على الباب. لم يتحرك ولم يبد أي تأثر بالصوت ولا رغبة في معرفة الطارق. من سيكون يا ترى صاحب الطرقات الرتيبة التي لا توحي بأي حدث مهم؟ لعله جاره في الطابق العلوي سيذكره بفاتورة الكهرباء, أو مندوب لشركة تجارية تبيع البضائع الرديئة رغما عن أنف الزبون, لعله ساعي البريد.. سخر من نفسه, وهل بقي ساعي بريد في هذه الأيام؟ لعلها.. لا.. لا من غير الممكن أن تأتي الآن بعد كل هذا الغياب حتى أن طرقاتها على الباب كانت دوما لطيفة رقيقة وكأنها عزف منفرد بإحساس عال وليست مجرد ضجيج على خشب جامد بارد.
بعد قليل توقف الصوت.. شيء ما بداخله تحرك, لقد ذهب الآن من كان واقفا خلف بابه, مكترثا بوجوده في المنزل, ينتظر سماع خطواته إن اقترب ليفتح. الآن لم يتبق إلا رائحته وبقايا أثره المعلق على الباب..
نهض من على الأريكة، أطفأ فوهة السيجارة ببقايا الفنجان الملقى على الطاولة بجانبه, نفض ثيابه وركض باتجاه الباب لعله يلحق بالضيف. نظر من العين السحرية ما من أحد, قراره المتأخر لم ينفعه. اتجه باتجاه الشباك المطل على مدخل البناء، كانت امرأة تلتف شمالا, يظهر منها طرف شعر أسود طويل, مرخي على راحته كليل حزين.. عرفها لقد كانت هي.
ضرب على رأسه بباطن كفه, تخبَط وصار يذهب ويجيء غير مدرك في أي اتجاه هو. صرخ مناديا لكنه توقف قبل أن يخرج الصوت ويصدح باسمها في الحي الفضولي كأصحابه. سيعرفون أن هذه التي تفيض على الأرض حسنا اسمها كذا.. حتى بينه وبين نفسه لن يذكره, مجرد الهمس قد يحدث ضجة كبيرة وقد يفلت زمام الأمور من يديه ويطير اسمها متنقلا بين الشبابيك ليخبر الجميع عنها ليشي بها. يا الله كل الحروف ضدي أنا العاجز عن التفكير.
صباح اليوم التالي أخذ حماما ساخنا، حلق ذقنه المنسية منذ أشهر، أعد قهوة حلوة على غير العادة وجلس ينتظر. مرت ساعة لم يحدث أي شيء غير أن فوهات السجائر ملأت المنفضة أمامه . ساعة أخرى وساعتان ولا صوت إلا لتكات الساعة المعلقة على الحائط. الزمن يسير أمامه ببطء, يجر عربة ثقيلة بتواتر ممل. لا أحد يستطيع إيقافه ولا تغيير مساره حتى.
حل المساء مرة أخرى وأخرى وهو على الأريكة مستلقيا في فمه سيجارة بنصف عمر وعينه على الباب المفتوح نصفه, يلولح به الهواء كما يشاء.. لعله يندب أو يودع أو يهلل.. لا إنه يندب بالتأكيد هذه المرة, يندب كل شيء.
ندى محمود القيم