بعد نقل القطع الأثرية الثمينة التي تسعى إليها شبكات المافيا العالمية إلى أماكن آمنة د. مأمون عبد الكريم: معركة تدمر عالمية تخصّ الإنسانية جمعاء
على وقع التصاعد غير المسبوق للأحداث المؤلمة التي تشهدها سورية، وعلى إيقاع مشهدٍ يتسم بالسوداوية بعد دخول تنظيم داعش الإرهابي إلى مدينة تدمر، الأمر الذي بات يشكل خطراً كبيراً على المدينة الأثرية المسجلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، وينذر بمأساة حقيقية بحق حضارة جديرة بأن يدافَع عنها بكل الوسائل، وهي التي قدمت للبشرية منجزات حضارية في عدة ميادين إلى أن باتت واحدة من أمهات المدن الحاضنة للقوافل خلال العصر الروماني، كان من الصعب على د.مأمون عبد الكريم المدير العام للآثار والمتاحف في المؤتمر الصحفي الذي عقده صباح أول أمس السبت في القاعة الشامية بالمتحف الوطني أن يخفي حزنه الشديد وتأثره الكبير بوقوع مدينة تدمر في أيدي عصابات داعش، وهو الحزن الذي بات يسكن قلب كل مواطن سوري لأن تدمر تواجه اليوم تهديداً حقيقياً يتمثل بالتعدّي عليها من خلال تدمير آثارها، مما سيشكل كارثة حقيقية بحق تاريخ سورية بشكل خاص والإنسانية بشكل عام.
اعترف عبد الكريم بأنه غير متفائل بمصير المدينة الأثرية لأن تجربة هؤلاء المجرمين في مدن أخرى كانت مريرة.. من هنا ناشد المجتمع الدولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، متسائلاً عن سبب إحجام طائرات (التحالف) عن منع جحافل العصابات من التقدم نحو تدمر وهي قادمة من الرقة والرمادي، مشيراً في حديثه عن دور المجتمع الدولي إلى أن العلاقة ممتازة مع اليونسكو وكل المنظمات الدولية المعنية بالتراث الثقافي العالمي، وكان هناك تواصل شبه أسبوعيّ ومن ثم يومي قبل وقوع تدمر في أيدي عصابات داعش، وقد أطلقت المديرية نداءاتها وقامت تلك المنظمات بإجراءات لم تنتهِ كما يشتهى، لأن هناك حسابات أخرى على الرغم من وجود قرار رقم 2199 صادر عن مجلس الأمن في 12 شباط 2015 والقاضي بتجفيف منابع الإرهاب وحماية التراث الثقافي المهدَّد في سورية والعراق، متأملاً أن يُستتبَع بإجراءات تنفيذية تترجم الإرادة الدولية بالحفاظ على تراث سورية الثقافي المهدَّد اليوم بأخطار وتحديات غير مسبوقة، كإلزام دول الجوار بضبط حدودها ومكافحة عمليات التهريب المنظّم لتراثنا الأثريّ عبر تلك الحدود، ومنع التخريب الممنهَج الذي تقوم به عصابات التكفير والإرهاب، مبيناً أن أمله كان كبيراً في أن تلعب هذه المنظمات الدولية دوراً في وقف التعدي على التراث والآثار وآخرها تدمر، وقد كان واثقاً بأن مكانة تدمر العالمية ستجنبها المخاطر لآخر لحظة، معترفاً بأنه صُدِم عندما سيطرت داعش على تدمر، موضحاً أن معركة تدمر هي معركة عالمية تخصّ الإنسانية جمعاء وليس فقط وحدات الجيش العربي السوري، لأن تدمر ليست مدينة سورية فقط بل هي من أمهات المدن المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، وما هو مطلوب من المديرية قامت به وستستمر بفعل ما يمكن فعله لآخر لحظة.
القطع الأثرية الهامة في أماكن آمنة
وفيما يتعلق بوضع مدينة تدمر والمنطقة الأثرية فيها بعد دخول عصابات داعش بيّن د.عبد الكريم أن المديرية تلقت مؤخراً معلومات تشير إلى أن المسلحين دخلوا المتحف وقاموا بتكسير المانيكانات التي تمثل عصور ما قبل التاريخ (قطع حديثة) التي كانت تستخدم لأهداف تربوية للأطفال، أما بالنسبة للمدينة الأثرية فقد أكد الأهالي من خلال تواصل المديرية مع بعضهم أن لا تحركات بعد للعصابات المسلحة في هذه المدينة، مشيراً عبد الكريم إلى أن داعش اعتادت في كل المناطق التي دخلتها على تنفيذ برنامج معين يقوم أولاً على السيطرة على الأهالي من خلال ترويعهم عبر تصفيات يقومون بها بحقهم، ومن ثم القيام بحملات تفتيش لكل البيوت لينتقلوا بعد ذلك نحو المناطق الأثرية، والخشية برأيه وهذا لا يتمناه أي إنسان عاقل، أن تقوم داعش وهذا ما قامت به في عدة مناطق أثرية بتحطيم التماثيل والسماح لعصابات الآثار بالدخول إلى هذه المناطق بشكل ممنهج، بهدف الحفر والتنقيب مقابل دفع نسبة مئوية لهذه العصابات، مؤكداً في الوقت ذاته أن المديرية قامت بنقل كل ما يمكن نقله من تدمر باستثناء المدافن والتوابيت الضخمة والأحجار، أما القطع الأثرية والكنوز التي تسعى إليها شبكات المافيا العالمية عادةً، فقد أصبحت في أماكن آمنة بفضل موظفي المديرية الذين دافعوا عنها في سبيل إنقاذها من أيدي العصابات وقد جُرِح عدد منهم في معركة تدمر.
تركيا أكبر منطقة تهرَّيب للآثار
وأوضح عبد الكريم أنه عندما تسقط مدينة في أيدي المسلحين عادةً يتم التعويل على المجتمع المحلي لحماية آثارها، منوهاً إلى أن المديرية تملك 2500 موظف يعملون في كل المحافظات وهم من أبناء المجتمع المحلي، يدعمون دور الوساطة والضغط لتحييد هذه المناطق حفاظاً على تراثها وهذا ما حدث حتى الآن في كثير من المناطق، وهذا ما يتم الآن في مدينة بصرى بالتعاون مع موظفي المديرية الذين ما زالوا على رأس عملهم فيها، مؤكداً أن المديرية وطيلة فترة الأزمة لم تفقد الثقة بأبنائها الذين حاربوا كما حاربت المديرية وموظفوها من أجل إنقاذ آلاف المواقع الأثرية ومئات الآلاف من القطع الأثرية، والتي أصبحت في أماكن آمنة وهو يشعر بالفخر بما قام به موظفو المديرية الذين ساعدوا في حماية القطع الأثرية الثمينة، والتي لو وقعت في أيدي العصابات لكان حجم المصيبة أكبر، مؤكداً أن مئات الآلاف من القطع الأثرية التي تمثل الحضارة السورية عبر آلاف السنين هي في أماكن آمنة، منها 35 ألف قطعة أثرية تم نقلها من متحف دير الزور بالإضافة إلى كل محتويات المتاحف في سورية والتي تم ترحيلها عبر طائرات عسكرية بهدف إيصالها بأمان، مشيراً كذلك إلى أن المديرية استعادت نحو 6300 قطعة أثرية تم ضبطها قبل خروجها من سورية، علماً أنها ليست قطعاً أصلية، مشيراً إلى أن الدولة الوحيدة التي ساعدت سورية في استعادة القطع كانت لبنان، وهي الدولة الوحيدة من دول الجوار التي تتعاون بشكل مستمر حيث تم استعادة 100 قطعة أثرية هامة بالتعاون مع الأجهزة اللبنانية خلال العام الفائت، في حين أن تركيا هي أكبر منطقة تهرَّب منها عادة هذه الآثار، ولدى المديرية مصادر تشير إلى وجود نحو 2000 قطعة أثرية في حوزة تركيا خلال شهر أيار 2014.
مواقع منكوبة
وكان من المهم أن يذكّرنا عبد الكريم بالتخريب والتدمير الذي أصاب تراثنا الثقافي في مدننا التاريخية كمدينتي حلب وحمص القديمتين والأضرار الكبيرة التي لحقت بقلاعنا كقلعة سمعان والحصن المدرجتين على قائمة التراث العالمي، وكيف أن انتشار عصابات الآثار المسلحة منذ صيف 2013 وقيامها بالحفر والسرقة والتدمير الممنهج لعشرات المواقع والتلال والمدافن الأثرية في دورا أوربوس، وماري في دير الزور وحمّام التركمان في الرقة وتل عجاجة في جنوب الحسكة وأفاميا في وسط سورية وإبلا، وبعض المواقع في المدن المنسية في محافظتَي حلب وإدلب وعشرات المواقع في ريف درعا.. الخ، قد ساهم في تصنيف هذه المواقع كمواقع منكوبة، وحفاظاً على ما تبقى وجَّه عبد الكريم الدعوة إلى جميع السوريين على امتداد الجغرافيا السورية للوحدة والتضامن في وجه عصابات التكفير والإرهاب والتهريب التي تستهدف تاريخنا وتراثنا بشكل وحشيّ وممنهَج وحثّهم على المشاركة بفاعلية في هذه المعركة الثقافية للدفاع عن تاريخنا وهويتنا المتمثلة بتراثنا الثقافيّ الاستثنائيّ بقيمه ومضامينه، مؤكداً أن معركة تدمر هي معركة ذاكرة، وبالتالي فإن خطر الهمجية يهدد كل السوريين.
معركة تدمر ثقافية حضارية
وختم عبد الكريم حديثه بتوجيه الشكر لوحدات الجيش العربي السوري التي كانت متواجدة في مدينة تدمر ودافعت عنها باستماتة دفاعاً عن الحضارة الإنسانية، على اعتبار أن معركة تدمر ثقافية حضارية بامتياز، وقد قدمت وحدات الجيش سابقاً الدعم والحماية والمؤازرة لحماية موظفي الآثار أثناء نقلهم كنوز حضارة تدمر التي لا تُقدَّر بثمن إلى أماكن آمنة، كما شكر العاملين في المديرية العامة للآثار والمتاحف في جميع أرجاء سورية المؤمنين برسالتهم التاريخية بحماية آثارنا، والمصممين على استكمال خوض هذه المعركة المصيرية من خلال قيامهم بواجباتهم في الدفاع عن تراثنا في أشدِّ الظروف حرجاً وصعوبة، ومواجهتهم لجميع أنواع المخاطر أثناء أدائهم لمهماتهم تلك.
أمينة عباس