ثقافة

مريضة “الزهايمر” التي هزت قلوب الناس

عندما تتذكر السمكة الزرقاء “دوري” المتميزة بسرعة النسيان في فيلم ديزني الشهير “البحث عن نيمو” لمحة من ماضيها خاصة أن عقلها لا يستطيع تخزين المعلومات إلا لفترة قصيرة جداً، يصبح وجهها ضبابي الملامح والمشهد غير مألوف، ويتحول فقدان ذاكرتها المؤقت إلى طرفة ومزحة مسلية، وفي أحد المواقف تقول “دوري”: “إنه لأمر سائد في أسرتي أو على الأقل أحسب أنا ذلك، ماذا سيحدث إذا ما نسيتكما؟ هل ستنسياني في أي وقت من الأوقات؟”. في الحقيقة هي جملة تستدعي الوقوف عندها كثيراً، ولا تأخذ وقتاً مطلقاً في استدرار غددنا الدمعية، فبمجرد سماعنا كلمة “نسيان” تنبش في أعماقنا الذكريات لتعبر عن آمالنا ومخاوفنا من الفقدان.

لقد أصبح مصطلح فقدان الذاكرة المعروف بالزهايمر هو مرض العصر، وقد قدمت الدراما التلفزيونية صوراً عن هذا المرض في أعمال كثيرة، فمثلاً في الموسم الرمضاني السابق جسدت الفنانة مرح جبر شخصية “سعدة” بطريقة طريفة جداً قريبة من الشخصية الكرتونية “دوري” في المسلسل البدوي الكوميدي “الطواريد” فحمل العمل طابعاً جديداً في الدراما البدوية لم يتم التطرق إليها من قبل في لوحات كوميدية وكان شيئاً مميزاً، و”سعدة” هي شخصية لديها ابنتان، ويجد شيخ القبيلة طفلين تائهين تقوم سعدة بإرضاع أحدهما، لكنها لم تعد تتذكر من هو الذي أرضعته بسبب فقدان الذاكرة ومن هنا تبدأ المواقف.

معظم النماذج التي قدمت عن “الزهايمر” كانت عن كبار السن، وقد جسده الفنان المصري عادل إمام في السينما في فيلم يحمل اسم المرض نفسه، وقدمت الممثلة “جوليان مور” نموذجاً عن المرض في الفيلم الأميركي “ماتزال أليس”، وفي الموسم الرمضاني الحالي تطرق مسلسل “شوق” إلى الزهايمر المبكر الذي يصيب الفنانة نسرين طافش التي تحمل نفس اسم العمل، حيث قدمت “شوق” دورها بشكل مختلف وجديد كسبت عبره تعاطف قلوب المشاهدين، وفي كل حلقة يزداد التعاطف معها وجعلت كل مشاهد يدور في ذهنه سلسلة من الأسئلة حول هذا المرض: هل يمكن لتاريخ الإنسان بأكمله أن يذهب سدى، وكأن شخصاً آخر محا كل شيء؟. شخصية “شوق” عبارة عن تقاطعات لقصص تعيشها الشخصية والمجتمع السوري في ظل الأزمة الراهنة، تجسد كل الأشياء التي يتمناها أي إنسان، وكلمة “شوق” هي الاشتياق الذي يتعلق بدلالة الاسم، وفي النهاية سيكون الاشتياق للذاكرة الجميلة البعيدة عن كل الأحداث التي تمر بالبلاد.

في الواقع، «شوق» هي إسقاط رمزي لدمشق، وهي ابنة العائلة المثقفة التي أثقلتها الظروف، والحدث الرئيسي الذي يطرأ عليها هو اكتشافها معاناتها من مرض “الزهايمر” خاصة أنها تنسى بشكل دائم وتتوالى بعدها الأحداث، فهي تؤدي شخصية مركبة قوية ومستقلة، أي السهل الممتنع، وهنا مكمن الصعوبة، لأن «شوق» فتاة مرحة، عفوية وحرّة تصارع مرضها (الزهايمر) المبكر، وهذه حالة استثنائية تحدث لواحد من ملايين. تبدأ نسرين طافش في ملامسة الجانب الإنساني عند المشاهد منذ اللقطات الأولى وتجسد شخصيتها ببراعة في هذا العمل، ووصلت الأمور أن البعض بكى بسبب معاناتها فقد برعت بإبراز السمات العاطفية والدرامية المستلزمة للدخول إلى قلوب المشاهدين، ولتحقيق هدف التغلب على المرض وعدم رمي ذاكرتها، حيث تبدأ بتغيير نظام حياتها وتتشبث بكل لحظة منها وتعيشها. في الواقع، يدوي صوت الممثلة نسرين طافش الذي يأتي مهدئاً للأعصاب، ومدغدغاً للمشاعر، ويمكن وصفها بأنها وصلت إلى أعلى طاقات الإبداع في الأداء وتجسيد الصراع النفسي الداخلي والخارجي للشخصية، لذلك حلقت بإبداع ونجحت في توصيل حاله الشجن للجمهور بنعومة وسلاسة مع موسيقتها الناعمة بدون تكلف وجمالها الأخاذ. في الحقيقة، تنتابنا قشعريرة تمتزج فيها الصدمة بالرهبة، ونحن نشهد المرض وهو يحكم قبضته ببطء على المصاب، هذا الكابوس المأساوي الذي تلخصه “شوق” يجعل الجميع أمام جملة: “أنك لو فقدت ذاكرتك ستصبح حياتك كالشريط الناصع البياض، ولن يبقى إلا الحب الذي زرعته ليحيط بك”. وفي النهاية تمنحنا نسرين طافش –كمشاهدين- إحساساً بأنه يتعين علينا إدراك كم نحن محظوظون لما نحن عليه، مقارنة بتلك الأرواح المحطمة التي يعصف بها الخوف أمامنا على الشاشة حول شعور جامح ومروع وهو خشية المرء من أن يفقد ذاكرته، أو أن يُسلب منه المحرك الرئيسي الذي يرسخ هويته، ورغم ذلك تبقى رسالة “شوق” دعوتها لنفسها والجميع للتمسك بشعور السعادة والتشبث بالأمل.

جمان بركات