في محاضرته حول الاستثمار في اللغة العربية د. السيد: اللغة العربية أداة من أدوات التنمية المستدامة وعامل اقتصادي هام
يرى الباحث د. محمود السيد أن الاستثمار في اللغة العربية التي توحّدنا وتجمعنا، يتم بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، فهي أداة من أدوات السيادة الوطنية، وفي الوقت ذاته أهم أداة من أدوات تعزيز المواطنة، إضافة إلى أنها قيمة حضارية وسياسية، وثروة قومية ذات عوائد اقتصادية كبيرة في مجتمع المعرفة، وأن الاستثمار في اللغة العربية يعني الاستثمار في توطين الصناعة والتجارة والتقانة والمعارف المختلفة، هذه هي المحاور الأساسية للمحاضرة التي ألقاها د. محمود السيد في مجمع اللغة العربية بعنوان: “الاستثمار في اللغة العربية ثروة قومية في عالم المعرفة”، والتي كانت أشبه بمشروع كتاب، إذ تجاوزت كلماتها خمسة آلاف كلمة، وتناولت مكانة اللغة العربية، والقيمة الاقتصادية لها، وكيفية الاستثمار في اللغة العربية، إضافة إلى تمكينها ونشرها، بحضور عدد كبير من الباحثين والمهتمين، ولم يعتمد د. السيد على السرد النظري المعرفي فقط، وإنما تضمنت المحاضرة الجانب العملي التطبيقي في إيضاح فكرة النظر إلى اللغة من المنظور الاقتصادي، وجعلها عاملاً اقتصادياً، فاستخدم الأسلوب الاستقصائي في البحث عن المعلومة، مستنداً إلى أقوال الفلاسفة والباحثين، وعاد إلى البحوث اللسانية والفلسفية، وركز على أحدث الإحصاءات التي تشرح استثمار اللغة، متوقفاً عند تجربة اللغة الانكليزية كونها اللغة العالمية الأولى، ومستعرضاً تجارب الدول الكبرى مثل اليابان في الترجمة، وقدم جملة من البنود التي تنضوي ضمن محور استثمار اللغة، وخلص إلى أن اللغة العربية مرجعية حضارية ودينية لأكثر من مليار مسلم غير عربي، وإلى أن مستقبل الأجيال العربية مرهون برعاية اللغة العربية، والنهوض بها، وأضفت ذاكرته الشعرية حبوراً على المكان باستحضار شواهد تدعم المعنى المراد.
وعلى هامش المحاضرة أثيرت إشكاليات لغوية تتعلق بالزجل، وكيفية الارتقاء باللهجة العامية، وسوء استخدام الألفاظ في اللوحات الإعلانية الطرقية.
الحامل الثقافي والحضاري
بدأ الباحث محاضرته بالمحور الأول: “اللغة أهمية ومكانة”، فتحدث عن أهميتها ومكانتها كونها الوسيلة التي يستخدمها الفرد للتعبير عن مشاعره، وهي الجسر الذي يعبُر من خلاله إلى الماضي، ويتواصل من خلاله أيضاً مع الآخرين، وهي رمز الهوية التي تميز شعباً عن شعب، وتطبع درجة حضارته، كونها الحامل للموروث الثقافي، وأحد عوامل التنمية الاقتصادية، وكما ذكر د. السيد فاللغة ليست نحواً وصرفاً وألفاظاً يتضمنها قاموس، وإنما لها وظيفة حضارية وسياسية، لأنها ثروة قومية ذات عوائد اقتصادية كبيرة في مجتمع المعرفة.
صناعة وسلعة
وفي المحور الثاني: “القيمة الاقتصادية للغة”، تطرق الباحث إلى دورها في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ يعد استخدام اللغة بمردود جيد وكفاية عالية أساساً لتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي، وهي صناعة وسلعة في القطاع الاقتصادي نتيجة تحول الاقتصاد العالمي نحو الاعتماد على المعرفة، ثم ناقش دراسة أجراها البنك الدولي، توصلت إلى أن حاجة الدول النامية إلى تحقيق النمو الاقتصادي تكمن في رفع مستوى المعرفة لأفراد المجتمع لا في مساعدات إنسانية، وهذا لا يحصل إلا من خلال اللغة الأم، لأن مخزونها لا ينفد، وفي جانب آخر أوضح الباحث أن ثمة علاقة نفسية متينة بين المتكلم واللغة، وبين اللغة والفكر من تداخل واتحاد بالاستناد إلى البحوث اللسانية والفلسفية.
الألفاظ تشبه الأحجار الكريمة
وفي هذا المحور أيضاً انتقل إلى فكرة التشابه بين اللغة والنقود من خلال قول “سميل” في مؤلفه: “فلسفة النقود” بوصفهما عاملين من عوامل تطور النظم الاجتماعية، وتداول الألفاظ في المجتمع يشبه تداول السلع في السوق، فثمة كلمات جوفاء تشبه الورقة النقدية عديمة الفائدة، بينما الكلام الجوهري يشبه الأحجار الكريمة، وأضاف في هذا المجال الحديث عن مستويات الكلام الذي يشبه مستويات العملات، فاللغة والعملة تصكان، ولا تتركان دون تحكم ومتابعة من قبل الدولة، فوحدة العملة في دولة ما تؤدي إلى مكاسب اقتصادية، وكذلك تعدد اللغات فيها يؤدي إلى خسائر اقتصادية، وصرف العملات، ونشر استعمال عملة ما خارج دولتها يوازي الترجمة بين اللغات، وتوصل إلى أن اللغة كالنقد من مسؤوليات الحكومة ولكل دولة سياسة نقدية ناجحة، وبالمثل لابد من سياسة لغوية وطنية وخطط خمسية وسنوية لنشرها، وهنا استعرض تجربة اللغة الانكليزية، وكيفية انتشارها بين الدول، وتطرق إلى تجربته حينما كان وزيراً للتربية في إصدار قرار يقضي بأن تكون اللغة الانكليزية هي اللغة الأجنبية الأولى في مناهجنا الدراسية.
اللغة الوطنية تعزز المواطنة
وفي محور “الاستثمار في اللغة العربية” تحدث د. السيد عن مفهوم الاستثمار في اللغة العربية القومية الذي يعني الاستثمار في توطين الصناعة والتجارة والتقانة والمعارف والإبداع، وتوصل إلى أن العملة الوطنية من مقومات السيادة الوطنية، وكذلك اللغة الوطنية فهي أداة من أدوات تعزيز المواطنة، ثم تطرق إلى قابلية استثمار اللغة العربية نظراً لاتساع سوق اللغة العربية في المنطقة العربية، وإقبال غير العرب على برامج تعلمها، وخاصة الدول الإسلامية، ومن ثم أسهب في الحديث عن الاستثمار بالموسوعات والبنوك الرقمية العربية، والمعاجم العامة والخاصة، كما تحدث عن دور الترجمة، مستعرضاً تجربة اليابان التي ترجمت 22000 كتاب، ما عدا المقالات والبحوث، وركز على الاستثمار بوضع برامج تفاعلية لتعليم اللغة العربية لأبنائها وغير أبنائها، وإجراء دورات تعليمية للعاملين على الأرض العربية، وألا يسمح بتجديد إقامتهم إلا إذا نجحوا بالدورات، وكذلك وضع برامج دينية مبسطة لتفسير القرآن الكريم، والحديث الشريف، إضافة إلى جملة برامج موجهة للأسرة والطفل على غرار افتح يا سمسم، ووضع برامج تعنى بإظهار الجوانب المشرقة بتراثنا العربي الإسلامي، وتبيان الرسالة الإسلامية، ودعوتها إلى العدالة والسلام بعيداً عن التعصب والتزمت.
الرسم بالخط العربي
وفي نهاية المحاضرة أضاف جملة قضايا، منها التعاون مع اللغات الأجنبية التي ترسم بالخط العربي مثل الفارسية، وفتح مجال التعاون مع المجتمعات التي تسهّل استخدام العربية لانتمائها إلى الدين الإسلامي من خلال العلاقات التجارية مثل: إيران، وماليزيا، والباكستان وأندونيسيا.
وعلى هامش المحاضرة ردّ د. السيد على تساؤلات بعض الحاضرين، فيما يتعلق بالزجل حيث أكد بأنه ليس ضد الزجل الذي تتضمن قصائده صوراً جميلة، لكن بعض القصائد تأتي بألفاظ غير مفهومة تحتاج إلى مترجم، وأورد مقارنة بين قصيدة من شعر الزجل، وأبيات للشريف الرضي تتسرب مباشرة إلى الوجدان، إيماناً منه بموسيقا الشعر العربي الفصيح، أما فيما يتعلق بمسألة الارتقاء باللهجة العامية فيرى د. السيد أن اللغة العربية الفصيحة هي التي توحّد بين أبناء الأمة العربية، لذلك فإن أعداء أمتنا يحاولون وأد اللغة العربية، وطمسها، وتشجيع اللهجات المحكية، لأنها تفرق بين أبناء الأمة، فنحن شئنا أم أبينا نتكلم اللهجة العامية، لكن مهمتنا الارتقاء بها، والحفاظ على اللغة التي توحدنا، وفيما يتعلق بواقع اللوحات الإعلانية الطرقية واللافتات، فإن لجنة تمكين اللغة العربية تبذل مجهوداً كبيراً في هذا المجال، ولكن اللغة مسؤولية جماعية، ولا تلقى على كاهل جهة واحدة.
ملده شويكاني