مسرح تدمر الأثري بين الحياة والموت
أمينة عباس
لا يأتي من فراغ قولنا عن منطقة ما بأنها مهد الحضارات، ذلك أن معطيات عديدة تتشكّل لتدعم الادعاء بأن هذه الأرض أو تلك كانت مهداً لحضارة أو لحضارات تعاقبت لتشكل صورة شاملة عن واقع بلد ما تستند إلى إرث إنسانيّ وحضاريّ لم يكن ليوجد لولا القدرة الفائقة لسكان هذه الرقعة الجغرافية أو تلك على التجدد والاستمرار في حمل لواء الحضارة. والمطلع على التاريخ يدرك أن هذه الأرض التي تشكل سورية اليوم كانت الموئل الأول لحضارات كثيرة سادت وازدهرت لفترة من الزمن، ثم بادت بعد أن تركت لنا ما تركته من شواهد وآثار تؤكد مدى العظَمة التي بلغتها تلك الحضارات التي شيّدت المسارح من بين ما شيدته من أوابد حضارية. وللمسارح القديمة في سورية شهرتها ومكانتها، فإذا كان مسرح بصرى الأثري أشهرها، خاصة وأنه ارتبط بإقامة مهرجان فني دولي سنوي فيه في مرحلة سابقة، فإن مسرح تدمر الأثري لا يقل عنه روعة وجلالاً وهو مسرح يعتقد علماء الآثار أنه بُني في النصف الأول من القرن الثاني الميلاديّ، ويعيد البعض بناء مدرجه إلى النصف الأول من القرن الثاني بينما شيّدت المنصة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، وقد أعيد بناؤه بعد انهياره عام 273 للميلاد عندما سيطر الرومان على المدينة وبقي مدفوناً تحت الرمال حتى العام 1950 حيث تم ترميمه في العام 1952 وقد بني من الحجارة الكلسية وله مدرج بقي منه اليوم ثلاثة عشر صفّاً، وتوجد في المسرح فسحة الأوركسترا وهي مبلطة بالحجارة، وكانت تُعرَض فيه الأعمال المسرحية المختلفة مثلما كانت تقام فيه عروض الصراع بين البشر والحيوانات المفترسة.
اليوم مسرح تدمر الأثري الذي عكس الوجه الحضاري لبلادنا على مدى مئات الأعوام يئن تحت وطأة الغزو الهمجيّ الذي تمثله جحافل خارجة عن أية أطر دينية أو أخلاقية أو إنسانية، جاءت كي تدّمر بلاد الحضارة وتقضي على كل مَعلَم حضاري وإنساني يمثل دليلاً على حضارة هذه الأرض التي لفظت وستلفظ كل الساعين إلى تدميرها وكسر إرادتها، ولا عجب أن يختار ممثلو الهمجية مسرح تدمر الأثري تحديداً لتنفيذ إعداماتهم وجرائمهم إمعاناً منهم في تحويل كل ما هو جميل في وطننا إلى رمز للقتل والدماء. لكن رغم ذلك ستبقى هذه الأرض طاهرة وسيبقى ترابها عصياً على الغادرين الذين لا يقيمون وزناً لا للأرض ولا للإنسان.