ثقافة

أين الثقافة المعرفية الإنسانية من أزمتنا

منال محمد يوسف
عندما نسمع  رنين الساعة الثقافية وصوتها الأزلي الذي تخيلناه ونتخيل بأنه لوهلة ما  سيلغي وجه الجاهلية ويسحق ويمحق جهلاء التعقل الإنساني، الذي نبحث عنه منذ عقود طويلة كانت وما زالت طويلة وثقيلة ربما بجهلها الأعمى – هناك من يتساءل: أيّ جهل ونحن في القرن الحادي والعشرين،  الزمن الذي يعود بنا إلى جاهلية الثقافة – جاهلية المعرفة الإنسانية الحمقاء والزمن الأحمق والثقافة الحمقاء في بعض الأحيان التي عجزت وتعجز كل يوم عن توحيد كلمتها وجمع شملها والبحث بين قنواتها عن إيجاد روافد جديدة تصقل الثقافة بمعناها الإنساني والأخلاقي أولاً، وبالمعنى التربوي التكويني لكل عقل على حدٍ سواء، فمن منا لا يسأل نفسه ما نفع المجلدات الضخمة والمكتبات الراقية إذا لم تستطع إتمام دورها المعرفي في خلق بيئة واعية تعي منظومة الانتماء أولاً – الانتماء إلى كينونة الإنسان، وديمومة انطلاقه في عوالم التمدن الفكري والتمدن المنطقي – و هنا لا بد أن نسأل: ما دور الحضارات المتعاقبة، إذ جاء ذلك الدور ولو وجد لكانت الحال أفضل مما هي عليه الآن، من يستطيع أن ينكر أن هذه الأزمة أفرزت أزمات متعددة الحال والأحوال، متعددة الاتجاه والاتجاهات، أفرزت ميداناً لم نكن نعي جاهليتها إلى أن ظهرت بحق لنا، وجاءت أقوام من الجهلاء لتلغي أي مساحة حلمنا بها أو كنا نحلم -كنا وما زلنا نعترف ونقرّ بأن التألق والارتقاء الفكري والثقافي فعل أخلاقي لا نحب نسبه إلى الفعل الماضي ومداراته فقط، ولا يُصبح مجدياً إذا وقفنا على الأطلال نردد قصائد فقط، أو ربما نغيّب مقولات ثقافية دون ادخالها إلى مختبر العقل عندنا.
كم من الأزمنة أبرمت عقوداً مع التألق الثقافي والفكري على حدٍ سواء، وكم ثقافات لم يقدر العقل البشري استيعابها، ولو تم استيعابها لكان الأجدر أولاً ترجمتها بشكلها الإنساني–الأخلاقي الذي  يحض على فهم الآخر، وتبنّي الفعل الراقي القائم على بسط جناحي المحبة وتعميم ثقافة السلام. كم من الكتب والمجلدات غصت وتغص بعبارات كانت براقة – رنانة الإنشاد؟! كم من الكلمات رصفت على مساحات الورق الأبيض ولم يهتم بها أحد، لم تُقرأ  وإن قُرأت لم يُفهم معناها ومغزاها، ذات المعنى وذات الجوهر، ولكن نحن بطبعنا نميل إلى رص الكثير من المفردات والكثير الكثير من الكلام. ربما  الثقافة وعجزها يتسع كمفهوم لم نكن لنقرّ  به – لولا أزمتنا الحالية– لولا عصرٍ أتى إلينا ولم نكن لنتخيل أن نعيشه في يومٍ من الأيام، ولا في عامٍ من الأعوام.
يقولون في البدء كانت الكلمة وربما نقول على وجه التحديد الكلمة الطيبة –والمفهوم والثقافة الطيبة القائمة أولاً وأخيراً على محبة الإنسان لأخيه الإنسان– لقد مرّ الزمن مرة أخرى بنا ويسمع صوتنا الثاكل وهو يسأل كيف حدث هذا، و أين كانت إنسانية الإنسان حتى وقعنا؟! كيف حدث – أين الثقافة المعرفية الحقة –ثقافة الإنسان بفطرته الأولى؟! كل الأسئلة تبدو الآن نازفة التوسلات تستجدي أجوبة ربما تبدو مبهمة الحال والمحال.          ما نفع كل ثقافات العالم أمام ما يجري الآن؟! و ما نفع وميض الفكرة إذا لم يأتلق سناها ويتوهج مجدها في رحاب المحبة الخلاقة – المحبة التي بتنا بحاجة إليها، إلى تفاصيل وجودها في حياتنا، في كينونتنا وديمومة انبعاثنا من جديد.
ويبقى السؤال الأهم: أين الثقافة الحقة التي تسمو بإنسانية الإنسان وتمحو جاهلية الجهلاء؟ أتصح المقارنة بين التوهم الثقافي وبين ما يحصل؟! لقد أفرزت الأزمة شعوراً باليتم الثقافي وبالجهل المعرفي على حدٍ سواء، هذا المنطق يتأتى لنا عندما تموت مفردات الحياة الثقافية، مفردات الجمال الحقيقي. ومن هنا تتسع دائرة الثقافة، وتتسع الأسئلة عن شموليتها وعن مفهومها الإنساني والأخلاقي أولاً وأخيراً.