ثقافة

الفنان نذير اسماعيل: أرسم الوجوه التي تشبهني وكل ما أنجزته ما هو إلا تجارب فاشلة؟!

يحتفي الفنانون ببعض التجارب التي عززت منتجهم الفني ويقدرون دورها وتأثيرها من خلال توسيع دائرة حواراتهم لتشمل أولئك الذين رفدوا هذا المنتج البصري ولم ينقطعوا عن رفده وإثرائه، والفنان نذير إسماعيل هو إحدى العلامات الواضحة في الحصيلة التشكيلية الحاضرة منذ أكثر من أربعين عاما، وهو الفنان الدمشقي الدؤوب ابن حزنها وصمتها وفرحها وجمالها، يسير في شوارعها متأملا مفردات أهلها والبيوت التي تطل على أزقتها المعرشة بالياسمين، وشوارعها التي ركنت في زواياها صنابير الماء المربوطة إليها آنية الشرب المعدنية بجنزير له نغمة مرافقة لإرتطام الألمنيوم برخام الصنبور ليزيد من رعشة الحواس برودة الماء المحببة، بمثل بساطة أولئك العابرون من ظمأ إلى ظمأ نحو الحياة العامرة ببساطة العيش والوداعة والسلام، فكم مشينا في  شوارعها لا لشيء بل من أجل المشي فقط في دهشة طويلة ترتاح الروح فيها وتستسلم. نعم يرسم للرسم فقط ويمشي في شوارع دمشق لغاية المشي فقط.. ألا يكفي؟
حين ننظر أعمال الفنان اسماعيل وبالأخص التي أنجزها في العشرين سنة الأخيرة تمثل أولئك الناس الذين وصل الظمأ بهم إلى حال صنابير الماء في الراهن من أيام صيفنا، حيث معلم ما يدل على أنه كان يوما هنا صنبور. صمت في هذا الركن وجفاف حزين يقارب الوجوه التي رسمت على مساحة اللوحة المتقشفة، فلا التزيين وارد فيها ولا أغنية اللون الطازجة، بل الوجوم بكل معناه حاضرا إلى أبعد من لون وخط رشيق يرسم روح الحركة بجرأة العارف، لنواجه خطا قلقا ممزقا رسم بأداة ليست صالحة حتى للطلاء، مجموعة من حزم الخطوط حول مدار الرأس أو الوجه  تتقطع أحيانا وتتوضح في مكان آخر، في جملة من الارتباك المتعمد. حتى الملامح الآدمية ترتمي على دائرة الرأس بحيادية وبدون إحساس بمتعة وجودها، هذه الوجوه الصافعة بحزنها وصمتها هي غابة من بشر أو من أسئلة لا أجوبة لها وكلام يتهم دون أن نسمع، لكن السمع بالعين هنا. الجاذبية الأرضية معدومة في لوحته حين نرى المقلوب صحيحا لأن الصمت هو المجسد والنفس واختلاجاتها أبلغ من توازن أثاث الأرض.
في ندوة الأربعاء التشكيلي حل الفنان نذير إسماعيل ضيفا في أمسية ثقافية تشكيلية تحدث فيها عن طفولته ومصادر ثقافته وعن رؤاه للفن التشكيلي وتجربته خصوصاً، وقد فاجأ الجميع بتواضعه المحبب حين اعتبر أن كل ما أنجزه لم يكن سوى مجموعة من التجارب الفاشلة!؟
طبعا حين يقول فنان مثل نذير إسماعيل أن أعماله تجارب يعني تواضع العارف أمام الجمال والمسؤولية اللامحدودة للفنان أمام أعماله القادمة والملتزمة قضايا الإنسان. وفي إشارة لزملائه والنرجسيين منهم أن في الفن لا يوجد شيء أنبل من رسالته والتزامه وأخلاقه. ويعتبر هذا الفشل هو الدافع القوي والمتوفر حتى يعمل غداً باحثا عن حياة جديدة وواثقة.
في منتصف القرن الماضي تربى الطفل في ميتم للأطفال في شارع بغداد، وفي طريق العودة لبيت العمة نهاية كل أسبوع يتوقف أمام منزل الفنان خالد معاذ الكائن في شارع 29 أيار ينظر للوحات من نافذة المنزل بدهشة وتأثر وأحياتا يضعها الفنان معاذ في الشمس لتجف، هذا التوق دفع فناننا للانتساب لاحقا لمركز الفنون التطبيقية – مركز وليد عزت حاليا – ليتعلم فن الطباعة، وهنا لا بد أن نذكر أن مرسم الفنان أبو صبحي التيناوي أو دكانه هي جزء من منزل جد نذير إسماعيل، وكثيرا ما شدته لوحات ذاك الفنان الفطري الذي يرسم عنترة وعبلة وقصص الزير سالم وتغريبة بني هلال، وغيرهم.
وروى الفنان النصائح التي قدمها له فاتح المدرس طالبا منه الرسم بالأبيض والأسود ومثنيا على موهبته، وقد اعتبر محاولته الفاشلة عرض لوحاته ببيروت في صالة تملكها سيدة قريبة من يوسف الخال بداية طيبة حين طلبت منه تلك السيدة أن يرسم عددا كبيرا من الأعمال ومن ثم تطّلع عليها لتوافق على استضافته لاحقا في طريقة لبقة للإعتذار منه، مما حدا به أن ينكب على الرسم بشغف كبير ليثبت موهبته. وقد استطاع أن ينجز أكثر من خمسين معرضا فرديا وجماعيا واقتنيت أعماله من قبل العديد من محبي فنه في العالم. نجاح كلل جهداً امتد لخمسين عاما من الرسم والتجريب، فهو يصنع ألوانه بيده وقد جرب الرسم على خامات متنوعة حتى على التنك الصدىء، ويعتبر أن فعل الرسم ممارسة للحرية وكل ما يقوم به في فضائها ووجودها مصدر متعة وخلق، وما يرسمه من وجوه للناس إنما يرسم وجهه بتعابيرهم التي تجتاحه بصمتها وهم الأغلبية على الأرض والأكثر سحرا وسلطة في اللوحة التي ينشد، فقد تأثر بفنون الفيوم من قبل، لكن عناصره الآدمية الآن يعيش معها ويجاورها ويدخل في صمتها الذي تلقاه من الميتم والحارة والذاكرة وصولا إلى حافلة النقل الجماعي، ويصر على انتمائه إلى ثقافة وبيئة لها من الخصوصية في التفكير والعيش. وما ينتجه من لوحات لن يكون إلا عالماً موازياً لحياة عاشها ويعيشها متزناً وإن كان العالم مقلوباً في لوحته فهو شاهد على زمنه.
أكسم طلاع