في ندوة “أثر الاتجاهات النقدية الحديثة في تلقي النص القديم”.. بحوث غنية وضيق في الوقت
ترى أي ألق يحمله النص التراثي القديم بين جوانبه وطياته، وأي سحر دفع الباحثين والنقاد لسبر أغواره والكشف عن أصالة من أبدعوه باعتباره يعبّر عن حضارات وشعوب. من هنا كانت الندوة التي أقامتها جمعية النقد في اتحاد الكتاب العرب تحت عنوان “أثر الاتجاهات النقدية الحديثة في تلقي النص القديم” وربما كان حال هذه الندوة يعبّر عن حال أغلب الندوات والمؤتمرات التي تقام والتي يبقى فيها الوقت الضيق العدو الأكبر والسيف المسلط على البحوث الغنية المطروحة، والاندفاع الذي يبديه المشاركون مما يدفعهم لاجتزاء مشاركاتهم لتتناسب مع بضع الدقائق المتاحة لهم.
افتتح أعمال الندوة د. راتب سكر مدير إدارة الجمعيات في الاتحاد بالحديث عن سبب اختيار جمعية النقد لعنوان “أثر الاتجاهات النقدية الحديثة في تلقي النص القديم ” كموضوع للنقاش والبحث في الندوة المركزية لجمعية النقد، وذلك لأهميته وكونه من الموضوعات الشائكة. ولفت سكر إلى الاهتمام الذي يلقاه الأدب القديم على مستوى الجامعات والمراكز واتحاد الكتاب العرب، مؤكداً على أواصر الصلة التي تعزرت اليوم بين أعمال النقاد حيث نرى اليوم ناقد الأدب القديم يقف جنباً إلى جنب مع زميله ناقد الأدب الحديث، واقتراب كل منهما من الاتجاهات النقدية الحديثة في العالم.
النقد المقارن نقد أدبي
و تضمنت مشاركات الباحثين محاور عدة حيث تضمنت الجلسة الأولى التي أدارها د. عبد الكريم حسين بمداخلة لـلدكتور ياسين أبو فاعور تناول فيها كتاب ألف ليلة وليلة في منظور الأدب المقارن حيث تحدث عن فكرة المقارنة بين الآداب من حيث النشأة والتعريفات والعناصر التي ينصب عليها النقد المقارن، وفي إطار حديثه عن الدراسات العربية التي اهتمت بهذا الفن وواكبت تطوراته أشار أبو فاعور إلى أن النقد المقارن نقد أدبي قبل أن يكون مقارناً، لذلك لابد من أن يركز على جمالية النص، وفي التفاصيل اعتبر أن كتاب ألف ليلة وليلة يحمل الكثير من الأهمية، وقد كان منطلقا لعدد كبير من البحوث الأنثروبولوجية، وقد اهتم به الغربيون في حين لم يكترث به العرب إلا في فترة لاحقة. أما الجوانب التي انصب عليها الاهتمام الغربي فكانت البحث في سلم القيم التي يتضمنها الكتاب وفنياته ومصادره والمادة المكونة له، أما العرب فقد اهتموا بمصادره ومضمونه والبعض استلهموا مواضيع مسرحية وقصصية منه، ولابد من التأكيد على تعدد مخطوطات ألف ليلة وليلة وصعوبة تصنيف الفنون القصصية فيه بحكم اتساع دائرة هذا الفن في الكتاب وتنوعها ضمن تسعة أجناس أدبية.
النقد الأدبي والنقد الثقافي
أما المشاركة الثانية فكانت مع د. رضوان القضماني الذي قدم قراءة في تجربة د. الغذامي وبدأ الحديث عن نظريات الخطاب ما بعد الكولونيالي التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وتوقف القضماني عند ما أخذه الغذامي من تلك النظريات، ويمكن إيجاز ذلك في ثلاث مسائل حيث أخذ من إدوارد سعيد أن الثقافة مصدر أساسي للهوية، كما أخذ من ميشيل فوكو رؤية حول مفهوم الهيمنة التي يسميها الغذامي بالنسق المضمر، وأخيرا أخذ من تودوروف نقل اصطلاح الشعرية من الشعر إلى الأدب. وقسم القضماني إنجازات الغذامي في النقد إلى ثلاثة مراحل الأولى لسانية والثانية نصية أما الثالثة فكانت في النقد الثقافي، وتوقف عند كل مرحلة كما تناول المنهج النقدي للغذامي وأسسه محدداً الفرق بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، ليفصل فيما بعد في مفهوم المصطلح مميزاً بين الأدوات المعرفية والإجرائية، كما بحث في مصطلحات النسق والمضمر النسقي وسلطة المضمر.
حيوية الأدب الشعبي
واختتمت الجلسة الأولى بمشاركة للدكتور غسان غنيم الذي بحث في موضوع الأدب الشعبي وآليات القراءة والتفسير، والذي قدمه كنمط ثقافي تعززه الممارسة الاجتماعية حتى بات يشكل هوية جماعة ما، ويندرج في هذا الإطار الغناء والرقص والطبخ. ولفت غنيم إلى أن التراث الشعبي مجال معرفي شمولي تملكه فئات الشعب كافة، وهو عادة ما كان ينقل مشافهة حتى جاء التدوين. كما تحدث غنيم عن العديد من خصائصه ومما ذكره أن معظم ما يتضمنه الأدب الشعبي مجهول المؤلف غالباً، كما أنه عفوي ولا يتخذ شكلاً أو قالبا بل يتمتع بالحيوية والاستمرار كما بحث غنيم في أنماط دراسة الأدب الشعبي.
الاختلاف بين النقاد
أما الجلسة الثانية فكانت بإدارة د. غسان غنيم وتضمنت أربع مشاركات الأولى جاءت بعنوان رسالة الغفران في مرائي النقاد وفيها تحدث د. راتب سكر عن الاستقبال النقدي الواسع الذي وجدته رسالة الغفران على المستويين العربي والعالمي، والذي توزع باتجاهات الموضوع والقضايا الفكرية التي بثها مؤلفها. ولفت سكر إلى الاختلاف القائم بين النقاد في النظر لرسالة الغفران ومصادرها وبمن تأثرت وبمن أثرت، وعرض لأراء مختلف النقاد ومنها كتاب لـ “قسطاكي الحمصي” الذي يقارن بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية لدانتي، ليبرز بعد ذلك العقاد في مجموعة مقالاته والتي رأى فيها أن رسالة الغفران لم تأت بجديد، وهنا كان لمحمد مندور أحد معاصري العقاد رأي مختلف عنه، ودارت بينهما العديد من السجالات في هذا المجال.
حاربه الظلاميون لخطورة منهجه
وعرض د. عاطف البطرس لأهم ما جاء في كتاب طه حسين في الأدب الجاهلي وركز على المنهج الذي استخدمه حسين، مؤكداً أن الأسئلة الكبرى التي طرحها د. طه حسين مازالت قائمة وربما كانت أكثر إلحاحا لعدم استكمال الأجوبة بحكم تقدم المعارف وانكسار عصر النهضة، والتراجع عن سؤاله لماذا تقدم الغرب وتراجع العرب. ولفت البطرس إلى أن أسئلة حسين تمتلك راهنيتها وقد اختار الشعر الجاهلي والأدب ليتقنع بها، فهو يرمي لأبعد من ذلك لأنه يعتبر أن التاريخ لا يكتب مرة واحدة ويتغير أو يؤول أكثر من تأويل، وهذا ما أدركه أعداء التقدم الذين استشعروا خطورة ما يفعله في منهجه وطريقته في إعادة النظر بالمنقول والارتقاء به إلى المعقول. وتحدث البطرس بالتفصيل عما تتضمنه فصول الكتاب معتبراً أن أهم ما جاء به حسين يتعلق بالمنهج وليس بالمعلومات والاستنتاجات مؤكدا مقولة أن طه حسين كان مبصراً في ليله أكثر منا في نهارنا.
قراءة النصوص سيميائياً
وتحدث د. جمال عبود عن الغنى الهائل الذي يتمتع به نص رسالة الغفران وتعدد مستوياته النصية داخل هذا النص مشدداً على أهمية قراءة رسالة الغفران قراءة سيميائية بما اتفق عليه من أن السيميائية علم الإشارة التي تدرس النص بوصفه علامات لغوية. وكشف ما تحويه اللغة من علاقات رمزية تراسلية. وأكد عبود أن النص عبر القراءة السيميائية ليس مغلقا أو مقيداً بقراءة واحدة، والقراءة تقف عند البنى التكوينية للنص وليس المضمون. من هنا أكد عبود على ضرورة دخول هذه القراءة على النص التراثي، ونجد في نص رسالة الغفران ما يغري بقراءة سيميائية تفتح أفاقاً جديدة كلما تعمق القارئ فيها. كما تحدث عبود عن المستويات المختلفة التي توزع عليها نص رسالة الغفران وقدم الأمثلة التي تدعم ما طرحه وذهب إليه.
أثر البنيان الشعري
المشاركة الأخيرة كانت مع د. عبد الكريم حسين الذي تحدث عن أثر المناهج الغربية في كتاب جدلية الخطاب والتجلي لمؤلفه د. كمال أبو ديب. ووقف حسين عند عتبة العنوان وعرض لمحتوى الكتاب وأقسامه من أبواب وفصول، كما توقف عند تأثير الماركسية في لفظ الجدلية وأثر نظرية فرويد في تحليل الصورة الفنية في الشعر، وأثر البنيان الشعري في فضاء القصيدة أيضاً.
جلال نديم صالح