ثقافة

أستوديو عسكري..بـ”48 ساعة مغادرة” ينتصر لثقافة الجمهور

حالة فنية جديدة اتخذت من حبّ الفن والموسيقا شعاراً لها، أطلقت على نفسها وبالفرادة ذاتها اسم “أستوديو عسكري”. هو حلمٌ لثلاثة شبّانٍ يمثلون جزءاً لا يُستهان به من مجموع الشباب السوري الفتيّ الذي تمرّد على واقعٍ أراد أن يفترس أحلامه وطموحاته، فحارب وانتصر لأمانيه وآماله.

“أستوديو عسكري”: هو فرقة مؤلفة من ثلاثة شبابٍ سوريين في ربيع عمرهم، التحقوا بخدمة الوطن وفي جعبتهم هذا الفيض من التّمنّي والألق، زاوجوا بين البندقية والقيثارة، وعزفوا على وتر الحرب واللحن، غنوا برشاش بنادقهم وأشجان حناجرهم، هم انعكاس لآلافٍ من الشباب الذين لم يتركوا أحلامهم بل حملوها في جعبتهم العسكرية، وصارت رفيقة دربهم، لم يدعوها لتنتظر بل اقتنصوها من رحم الموت وأخذوها معهم، كل هذه الأحلام والطموحات تجسدت لهم بشكل واحد، وكان أن ولد من قبيل الصدفة “الأستوديو العسكري” الذي يمثل ظاهرة لافتة تستحق التقدير والاهتمام سواءً اتفقنا مع القالب الذي ظهرت به أم لم نتفق.
غيد إبراهيم، وسام حريبا، أديب حميرا ثلاثة شبان جمعتهم رفقة السلاح، واختاروا أن يهوّنوا ليالي الموت عنهم بأغاني الحياة،  فغنوا من قطعتهم العسكرية ومن على حواجزهم كاسرين صوت الحرب وقيد الحصول على إجازة أو مغادرة، فوصل صوتهم لهذا العالم الافتراضي بما يمثله من فيسبوك، ويوتيوب، وماوراء هذه الأيقونات، ليتلقف مستخدمو هذه المواقع من الشباب بشكل خاص هذه الأصوات وهذه الحالة، وتنتشر وصلاتهم الغنائية العفوية كالنار في الهشيم بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ومع كل هذا الاهتمام والفضول أُعلِنَ عن ولادة هذه التجربة الفريدة في مجال الغناء، والتي أصبحت حديث الشارع السوري، لتنتقل هذه التجربة من صفحات المجتمع الزرقاء المخبأة إلى مسارح المدينة المزدحمة، وتحديداً مسرح دار الأسد في اللاذقية الذي استضاف وفي ليلتين متتاليتين حفلين لأستوديو عسكري تحت عنوان “مغادرة48″ وهذا هو الاسم الذي يعبر عن روح هذه الفرقة وهيكلها العام، والمصطلح المستخدم في العرف العسكري للإجازات الممنوحة للعسكريين، والتي اختارها هؤلاء الشباب عنواناً لأولى حفلاتهم.
لاتعشقيني عسكري” و”شرّف ع الجيش” هي من أغاني الفرقة التي يكتب كلماتها وألحانها ويؤديها أعضاء الفرقة الثلاثة أنفسهم، أي أنهم لا يقلدون أحد بل يبتكرون خطهم ومنهجهم العام ومن هنا جاء هذا التفرد. فأغانيهم كلها ماهي إلا انعكاس للحالة التي يعيشونها هؤلاء، والتي تحمل في طياتها الغربة، الوجع،  الانتظار، الأمل بالرجوع والحب مع لمسة فكاهية، وبلغة أقرب ما تكون للمحكية وبلحنٍ أبعد ما يكون عن سلّمي دو الكبير والصغير، إنها حالة تكاد تكون هي المسيطرة لدى الشباب السوري بشكل عام، ومن هنا كان الاهتمام والمتابعة اللذان حظيت بهما هذه الفرقة التي جسدت مخاوف وحالة الشباب، وتحدثت بلسان حالهم جميعاً بلغة فنية مفهومة بسيطة وخالية من التعقيد فجاءت الاستجابة والحماسة لهذه الأغاني سريعة ومدوية.
حفلتان اثنتان في دار الأسد في اللاذقية لهذه الفرقة كانتا كافيتين لمعرفة الحد الذي وصلت إليه في قلوب الجمهور الذي حضر وبكل حبٍ ورغم برودة طقس المدينة في اليومين الماضيين، فإخلاص هذا الجمهور الشاب المتحمس كان أقوى وأكثر دفئاً وأغرق المدرجات بتعاطفٍ ومحبة أكثر منها لهفة موسيقية تجاه هذا الثلاثي الشاب، وهذا الحضور الكبير الذي ملأ المدرجات طواعياً وسيطر عليه هوى الشباب كان بحق مقياساً ناجعاً لقياس هذا النجاح الهائل لأستوديو عسكري، والذي تُرجم تفاعلاً بريئاً عفوياً مع كل ماقدمته الفرقة طوال حفلاتها.
مع أضواءٍ خافتة، وديكورٍ خلفيٍّ لحائطٍ شبه مدمّر غصّ بعباراتٍ وأحرفٍ مارقة للذكرى، وباللباس العسكري الكامل غنى ثلاثي الفرقة وفي حوزتهم عودٌ وناي وصوت، فاكتملت بهذه العناصر لوحة الشاب السوري المقاوم بكل عصريته، والتي التف حولها كل الحضور وطبطبوا على ألحانهم المثخنة جروحاً وانتظاراً، تصفيقاً وتعاطفاً، وجعل منهم في تلك الليالي بمرتبة الموسيقيين العظام الذين يستحقون أن يعتلوا خشبات المسارح الموقرة.
“أستوديو عسكري” حالة جديدة فرضت نفسها على مجتمعنا أو ربما المجتمع هو من فرضها، لأنه وجد فيها ما يشبهه ومايمر به ويعتريه. قد لا يتفق البعض مع هذه الحالة ولا يرى فيها هذا الفن الذي يرقى لمستوى مسارح ودور الثقافة المقدسة، ولكن لطالما كانت الثقافة والفنون هي انعكاس لحياة الشعوب، متغيرةً بتغير مصائرهم وأشكال انتقالهم أثناء سعيهم للكمال والتطور، وهذه الحرب غيرت مصائرنا جميعاً وأفرزت فنوناً وحالات، ومواضيع، لم تكن موجودة مسبقاً وأصبح وجودها حاجةً ملحة فيما بعد، وبالتأكيد هذا الجمهور الذي وقف لهم مراراً وتكراراً وذهب بملء إرادته ليشجع انطلاقتهم يستحق أن نمنحه هذه المرة الثقافة التي يريدها، فساحات المعارك أكثر قداسةً من خشبات المسارح التي زعم البعض بأنهم يدنسوها، ورغم فقر إمكاناتهم إلا أن صوتهم قد وصل لقلب كل سوري، وفعل فعله سواءً أحب البعض منا هذا أم لم يحب.
وبعد هذا الحفل الناجح بالتأكيد سيصبح وجودهم أكثر واقعية وثباتاً، وربما يحصلون على الدعم الذي يستحقونه ويكبروا ويصلوا خارج الحدود، فمن يدري!؟  فهم عندما قرروا أن يغنّوا لا أعتقد أنهم توقعوا أن تبدأ حفلتهم هواة على حاجز عسكري وتنتهي محترفين على خشبة مسرح دار الأسد في اللاذقية.

بثينة أكرم قاسم