ثقافة

في ذكرى ميلاد محمد الماغوط الطفل أبدا

ينظر إليكم من خلف زجاج نظاراته ومن بين شفتيه تتدلى سيجارة وكأنها أبدية الاشتعال، على رأسه “طاقية” مائلة قليلا، حيث يبدو وكأنه كان متكئا فاستوى، تلك الصورة بالذات، هي التي ستبقى الأكثر حضورا في ذهن القراء عن الرجل الذي أحبوه بمختلف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية والفكرية.

“محمد الماغوط”، الذي يصادف اليوم ذكرى مولده. ماذا يمكن أن يكتب عنه؟ الرجل أصبح أيقونة ويكاد يصبح ذكر أعماله أو حتى مقتطفات منها، بمثابة “كليشيه” للقراء، ليس محليا فقط، بل عربيا، كُتب عنه ألوف المقالات، وعشرات الكتب، ومئات الدراسات النقدية والتحليلية بأنواعها، حتى تلك التفكيكية، أو التي تعمل على “فرط” –كما يقال بالعامية- أعماله جميعها لتشريحها نقديا، وكل ما سبق يُجمع على أن “نيزكا” مرّ على الأرض، ترك ما ترك من إرث أدبي وفكري ثقيل، لثقله تمّ اتهام أجيال كاملة، بأنها خرجت من “عباءته”، سواء من شعراء قصيدة النثر، الذين فتنتهم قصائده، من أكبرهم وأفخمهم وصولا إلى من لا ذكر لهم، أو من المشتغلين في الصحافة السياسية الساخرة، والتي حولها “الماغوط” في سورية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى ما يشبه عوالم أدبية بمختلف أنواعها، قائمة بحد ذاتها على أفكاره، حتى أن التلفزيون والمسرح والسينما، اعتمدوا عليها في إنجازهم ما أنجزوه في تلك المرحلة، هل تريدون أمثلة؟ لا أظن فمرور نيزك، ليس بحاجة لأمثلة، إنه مثال نفسه المدوي، فماذا إذا يمكن أن يكُتب عن قامة أدبية وفكرية وشعرية وفلسفية حتى بقامة “الماغوط” في ذكرى مولده؟.
“ليتني وردةٌ جوريةٌ في حديقة ما/ يقطفني شاعرٌ كئيب في أواخر النهار/ أو حانةٌ من الخشب الأحمر يرتادها المطرُ والغرباء/ أشتهي أن أقبِّل طفلاً صغيراً في “باب توما” ومن شفتيه الورديتين/ تنبعثُ رائحةُ الثدي الذي أرضَعَه، فأنا ما زلتُ وحيداً وقاسياً/ أنا غريبٌ يا أمي”
يكاد يكون المقطع السابق من القصيدة الشهيرة “أغنية لباب توما” من أكثر ما خطه “الماغوط” حزنا وألما رغم جماليته الساحرة، ومنها نستطيع أن ندرك أن “محمد الماغوط” المولود في القرن الماضي، بقي صبيا لم يكبر على ما خسره يوما وهو يبكيه بحرقة، حتى وهو في عزّ شهرته وعزوته الأدبية ومكانته الفكرية والثقافية، وفي القصيدة التي تبدو مناسبته للوصول إلى ما يريده قوله فعلا، يتكشف أن مدحه الخلاب لـ”باب توما” ليس في حقيقته إلا شعورا بالغربة القاهرة، فهو ليس من مفردات هذا المكان، إنه من مفردات طبيعة أخرى، لم تغادره لحظة وبقيت الحياة الدافئة والحقيقية بالنسبة له- والتي افتقدها فيما بعد- هي تلك التي تركها خلفه في ملاعب الطفولة، حيث ينتمي إلى شباك تعربشت عليه يقطينة، ومن مُنفرجه على العالم المحيط، كان ذاك الطفل يطل كل يوم على “سلميته”، التي تضيفه قطعة حلوى يضحك لها قلبه، قبل أن تستقبل بشاشته، رائحة فستان أمه، والتي لم يجد لها معادلا في العالم، -عله وجده اليوم حيث هو الآن كما أتمنى-.
“أغنية لباب توما” تكشف أي حزن أبهظ حياة هذا الرجل، وأي حنين هائل يختزنه في إبداعه لأمه، التي كانت كل العالم بالنسبة إليه، ولم يزل هذا العالم بلا روح منذ غادرته ومنذ غادرها، لم ينادِ صديقا في تلك اللحظة القاسية، ولا حبيبة، لم يذهب ليثمل في واحد من بارات “باب توما” إنه ينظر إلى جمال موجود فعلا- لكنه يريد أمه بعد كل ذلك الوصف الجميل للمكان والذي لا يقارن جماله بالنسبة له، بجمال المكان الذي ألفه بأهله وناسه وطبيعته، حيث وقف العالم هناك تماما في تلك اللحظة، ولم يمضِ بعدها بالنسبة إليه، إلا كأيام تمرّ على عداد ولا تعني شيئا.
كبر الرجل وصار زوجا ووالدا، طار لعواصم عديدة، حظي بالكثير من المدح والجوائز والتمني، عاش كأمير في دمشق، وكان صادقا ووطنيا في أدبه ونقده السياسي والاجتماعي اللاذع، فصدقه الناس ولم يقدر “رقيبا” أن يحذف له مقطعا هنا أو جملة هناك، كتب ما كتب، وعاش ما عاش، لكنه بقي حتى يوم مماته يشعر أنه طفل في الغرفة التي تحيك فيها أمه ربما سرواله أو فردة جرابه، لا يريد أن يتقدم خطوة واحدة خارج عتبة ألفته، تلك التي دخلها طفلا، وخرج منها طفلا أيضا.
محمد أحمد عيسى الماغوط-1934-2006- شاعر وأديب من مدينة السلمية السورية، تلقى تعليمه في السلمية ودمشق وكان فقره سبباً في تركه المدرسة في سن مبكرة، كانت سلمية ودمشق وبيروت المحطات الأساسية في حياة الماغوط وإبداعه، عمل في الصحافة حيث كان من المؤسسين لجريدة تشرين، كما عمل رئيساً لتحرير مجلة الشرطة، احترف الأدب السياسي الساخر وألف العديد من المسرحيات الناقدة التي لعبت دوراً كبيراً في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي، كما كتب الرواية والشعر وامتاز في القصيدة النثرية التي يعتبر واحدًا من روادها، وله دواوين عديدة فيها. توفي في ربيع 2006، واليوم تحل ذكرى مولده، التي غالبا لا يأتي أحد ما على ذكره في هذا التاريخ، كما يتم ذكره عند تاريخ الموت!.
تمّام علي بركات