عاصي الرحباني: ذكرى مرورك على هذه الأرض عصية على النسيان أو التجاهل
مرت ذكرى رحيل الفنان “عاصي الرحباني” على الفضائيات باهتة هذا العام كما العام الذي سبقه، بين بهرجة الدراما العربية الفارغة من المضمون والمكتظة بأسباب الفرقة والشقاق، مرت بصمت نستطيع فهمه في بلاد صار دأبها أن تطمس كل علامة مضيئة وفارقة في تاريخها المليء بالغدر والطعنات والتسويف، ذلك أننا عندما نرى لتاريخ هذا الرجل الاستثنائي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، سوف ندرك لماذا لا تريد “بلاد العرب أوطاني” أن تحتفل بذكرى هذا المرور المليء بالحياة والمحبة والفرح والوطن لـ قامة بحجم “عاصي الرحباني” بينما تتهافت تلك المحطات لاستقبال فتاة مغمورة لم يعرف عنها سابقا إلا قلة حيائها أو انعدامه، سوف ندرك كيف يصير القصر المنيف في مهب التجاهل والتناسي بينما الطحالب تحتل الواجهة المخادعة تطلق الأحكام وترث الأختام.
لم يكن عشق “عاصي الرحباني” لبلاده مقتصرا على الحاضر، لم يكتف فقط بـ “سائليني يا شآم وشام يا ذا السيف لم يغب أو مر بي يا واعدا وعدا”، لقد ذهب إلى ماضي هذه البلاد وعمق تاريخها، فلحَّن أجمل الأندلسيات، مصحوبة بأجمل ما كتب أبو النواس من قصائد ساحرة.
لقد كانت ألحانه من وزن الأحداث التاريخية العظيمة، فلم يكن من قبيل الصدفة أن أغنية “خبطة قدمكم” كانت الإيعاز ببدء لحظة الهجوم في حرب تشرين التحريرية المجيدة لاستعادة القنيطرة، وفي بيئة لبنانية مشبعة بالثقافة الفرانكفونية، ظهر ذلك الفنان المجيد، الذي دأب أن يجوب أرياف بلاد الشام للحصول على الأغاني التراثية، وذلك في جهد صادق منه لجلب أبناء الريف إلى الحياة الثقافية في المدينة والتي كانت لا تزال تحت هيمنة التأثير الثقافي الاستعماري.
المولعون بالموسيقى الغربية، الدائخون بـ موزارت وبيتهوفن وغيرهم، فوجئوا بأغاني “الدلعونا والروزنا والميجنا” تكتسح محطات الراديو وتصبح طليقة على كل لسان منذ أعاد “الرحباني” إحياءها وحتى اللحظة.
لقد أكد “عاصي” على حضور جميع مكونات الشعب في فنه، فوصل في بحثه عن التراث إلى أقصى الحدود الشمالية وجلب لحنا كرديا شهيرا ظهر في أغنية “بردا بردانة بردا” وزاوجها بكلمات شعبية فتغنى بها الناس لعقود وما زالوا.
الأصالة والحس الوطني العالي والرهافة جعلت هذا الرجل القادم من بلدة ريفية في لبنان يسعى في نتاجه الفني والفكري ليشكل وحدة إنسانية فنية، تعمل على إلغاء الفوارق التي صنعتها البرجوازية الكاذبة بين أفراد المجتمع الواحد، ويكفيه فخراً أن العالم العربي كله من أقصاه إلى أقصاه يصحو صباحا على وقع كلماته وألحانه وهي تقتلع أوتاد الحدود الاستعمارية والحواجز الثقافية بين الأوطان، تعبر الأزمنة لتصهر كل ثقافات المنطقة بتنوعها الإثني والديني والقومي في نشيد خالد الكلمات راسخ اللحن، يشدو به حتى الأطفال الذين ما زال الكلام يتعثر على شفاهم الغضة.
ما سبق دفع القائد الخالد “حافظ الأسد” بعد أن عرف القيمة الإنسانية والوطنية والقومية الحقيقة لهذا الفنان الفذ، أن يرسله للعلاج في الخارج بعد أن أصيب بجلطة دماغية مطلع الثمانينيات، فالرجال تعرف معادن الرجال.
عاصي الرحباني لن يكون مرورك الكريم فوق هذه الأرض إلا حدثاً لا مثال له وقيمة إنسانية ووطنية وفنية لا تخبو، والتاريخ لا ينسى حتى لو عمد حفدة الجهل لتغيير مجراه برائحة الدم والفرقة، التي عملت جاهدا بما قدمته من فن أصيل لا ينسى على إزالة حواجزها القميئة ورفع حدودها الاستعمارية بكلمة الحق ولحن الخلود.
تمام علي بركات