في حديث معه حول مسلسل حارة المشرقة أيمن الدقر: القضية الفلسطينية أحد أهم جذور الأزمة السورية
اتصف مسلسل حارة المشرقة التي ترمز إلى سورية بالواقعية الشديدة، فخطوط الفنان أيمن الدقر التشكيلية التي تختزل النمنمات الصغيرة، والإضاءة المتوازنة التي تزيّن لوحاته، عكست مواضع السلبيات والإيجابيات المتداخلة مع تناقضات ومفارقات نعيشها في مجتمعنا، و”كاركتر” الشخوص التي نرى سلوكياتها وردود أفعالها على الشاشة ليست من وحي خيال الفنان الدقر، كاتب السيناريو، وإنما هم أشخاص قابلهم الكاتب وعاصرهم في حياته العامة والمهنية- كما قال- تمكّن من توظيفها ضمن توليفة تشكّل حالة نقدية. السمة البارزة في العمل الذي جاء بتوقيع المخرج ناجي طعمة، وإنتاج المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، هي معالجة الفساد الثقافي، وتوصيف بعض منه، والذي يشكّل أحد المحاور الأساسية المتمثلة بتبييض الأموال من خلال الأعمال الفنية، وهجرة الكفاءات العلمية، والجاسوسية المضمنة داخل خط القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، والتي يرى الدقر أنها أحد أهم جذور الأزمة التي تشهدها سورية، والتي تناولها في حارة المشرقة بالترميز بعيداً عن المباشرة.
وفي حوار البعث مع الدقر بدأنا من الحديث عن العنوان الشائق الذي يثير داخل المشاهد أسئلة متتالية لما تعنيه المشرقة التي هي سورية بكل جغرافيتها ومناخاتها- كما يذكر- وكما يراها من الأعلى من جبل قاسيون، فالمشرقة هي الطابق الذي يعلو النصاصي، ويكشف فناء المنزل الدمشقي الكبير، وهذا رمز لحارة المشرقة التي تكشف كل المفارقات والتناقضات.
ويتابع: كما تكشف المشرقة كل شيء، حاولت أن أتناول إشكاليات موجودة في مجتمعنا جمعتها ضمن خط درامي واحد مثل: تبييض الأموال، وهجرة الكفاءات، والجاسوسية، والتطرف الديني، والتناقض بالشخصية، وتبعات الأزمة، والفساد الثقافي الذي أقصد به ادعاء الثقافة من قبل بعض الأشخاص الفارغين من الداخل، وأحياناً استغلال الثقافة من أجل غايات ليست ثقافية.
ويكشف الدقر أوراق خلل ثقافي من خلال الجلسات الثقافية (شلة المثقفين) في المقهى، والتي جسّدها بمشاهد متكررة، تصوّر ما عاشه الكاتب فعلاً مع أصدقائه، ويذهب إلى أبعد من ذلك حينما يرى أن بعضهم أصبحوا نجوماً، وهم منظرون خلف المنابر، وبعيدون عن الثقافة التي هي سلوك وممارسة، وليست شعارات متداولة، فالثقافة تراكم معرفي تتحوّل إلى ملكة يمارسها المثقف في حياته فعلاً بلغة تلقائية يفهمها الجميع بلغة اللهجة المتداولة في الشارع والبيت بعيداً عن تلميع السلبيات والترميز إليها، بل مكاشفة تلك السلبيات، وابتعدت عن موضوع التنظير، فلم أظهر شخصية تنظّر عن الأخلاق، وإنما أوجدت شخصية تمارس الأخلاق، ولم أرسم شخصية تفكر بارتكاب الشر، وإنما شخصية تمارس الشر فعلاً من خلال العلاقة مع الآخرين، وتقصدت إضافة مشاهد مضحكة بمعنى السخرية من الواقع.
مصائر الشخوص والمساءلة
والأهم المساءلة لتلك النماذج من الشخوص التي تحمل في داخلها طاقات انفعالية، ونوازع متباينة بين الخير والشر، ولا توجد شخصية شريرة بالمطلق، أو خيّرة بالمطلق، لابد أن يطغى جانب على جانب آخر، مثلاً شخصية شهيرة (سلاف فواخرجي) المحرّك الأساسي للأحداث تستغل جمالها وأنوثتها لإغواء الرجال، والحصول على المال، وفي الوقت نفسه نراها تعطف على الفقراء، وتمنحهم من المال الذي حصلت عليه بطرق غير شرعية، كذلك شخصية الوزير (علي كريم) الذي يستغل ساعة كهرباء الوزارة لأغراض شخصية، وكذلك سيارة الوزارة، لكنه حينما يعلم أن زوجته تقبل رشاوى وتستغل اسمه لتسييرمصالح الآخرين، لا يتردد بطلاقها، وشخصية صاحب المكتب العقاري عبد المنعم عمايري الذي يشارك بهجرة الكفاءات، وفي المقابل كانت شخصية أسعد فضة الإيجابية الذي يمثل معاناة المتقاعدين الذين يحتاجون إلى معالجة ودواء واهتمام، ويتقاطع مع شخصية زهير رمضان النزيه الذي رفض الاستمرار مع مديره الذي يقوم بممارسات خاطئة، وقرر تقديم استقالته.. الأمر اللافت في حارة المشرقة اعتماد الكاتب على النهايات المحكمة في تحديد مصائر الشخوص، وتطبيق المساءلة، ولكن تبقى “شهيرة مستمرة من خلال كثيرات “الجملة التي ستكتب على شارة المسلسل في الحلقة الأخيرة، فيضيف الدقر: للوصول إلى مكامن الخطأ، لابد من المساءلة على سبيل المثال حينما تساءل الضابط عن هجرة العقول والكفاءات العلمية، قال:”كيف لا نعرف بالأحداث قبل وقوعها، نحن مباحث أم شرطة؟”، وهذا يقودنا إلى دور الرقابة، وأقصد الرقابة بمفهومها العام، الرقابة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الترميز للأزمة
ومن الشخصيات ننتقل بالحديث إلى ملامح الأزمة التي بدت بأسلوب بعيد عن المباشرة على غرار الأعمال الاجتماعية التي يتزامن عرضها معه، مثل: “امرأة من نار”، و”بانتظار الياسمين”، ففي “حارة المشرقة” لا نسمع صوت انفجار قنبلة أو سيارة مفخخة، وإنما تناولها من خلال معاناة أبطال العمل من غلاء الأسعار نتيجة ارتفاع سعر الدولار، وللدقر هدف من وراء ذلك، إذ يقول: أنا لست مع الكتابة عن الأزمة إلا بعد أن تنتهي ويعود الأمان إلى سورية، وتكشف أوراقها ونعرف كل تفاصيلها، برأيي مازال إلى الآن يكتنفها بعض الغموض، ومن تبعات الأزمة إلى محور الجاسوسية الذي ربطه الدقر مع خط القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الأولى، ويجد رابطاً بينها وبين الأزمة التي تعيشها سورية، إذ يؤكد بأن القضية الفلسطينية هي أحد أهم جذور الأزمة السورية، فالمطلوب أن تكون سورية مثل السعودية أو قطر، وهذا مستحيل بالنسبة لسورية.
استثمار الإنسان
وبعد حارة المشرقة فتحنا صفحة جديدة لمعرفة لمحة عن عمله القادم الذي يعود فيه إلى الحلقة الأولى، إلى السبب الأساسي المتعلق بالأزمة، وهو التربية، وبالتأكيد يوجد خلل تربوي، وإلا لما انقاد بعضهم بغريزة القطيع دون محاكمة عقلية سليمة، فيحكي عن إعادة بناء الإنسان تزامناً مع إعمار سورية، وضرورة استثمار الإنسان الذي هو الأساس في جميع مناحي الحياة من خلال طرح مشكلات اجتماعية نعيشها بسبب التقصير في استثمار الإنسان ومواردنا البشرية، منها مثلاً المتاجرة بالدين وتحويله إلى حرفة يرتزق منها بعضهم، وذلك بالمنحى الدرامي ذاته لحارة المشرقة، ووفق أسلوب المخاطبة ببساطة بعيداً عن التنظير.
الانتظار أصعب مرحلة
وأنهينا حوارنا مع الدقر بالحديث عن لوحة الغرافيك “انتظار” التي تضم مجموعة نساء في حالة ترقب وتأمل وانتظار، يحلمن بالمفتاح الذهبي الذي يفتح أمامهن أبواب الأمل بإشراق يوم جديد يبشر بالنصر القادم، وانتهاء عتمة الحرب التي نعيشها، و”انتظار” هي واحدة من ثلاثين لوحة رسمها الفنان والكاتب الدقر بالتزامن مع كتابة حارة المشرقة بأسلوب تشكيلي مختلف عن تجربته التشكيلية السابقة، فيقول: «خلال سنوات الأزمة لم أستطع أن أتعامل مع الألوان لأنه لا وجود للإشراق في حياتنا، فاشتغلت على الأبيض والأسود، وتأتي هذه المجموعة بعد أن نظمت وأعددت المعرض التوثيقي “سورية على مشارف الفجر”، برعاية السيد الرئيس بشار الأسد الذي أقيم في الاوبرا، وافتتحته الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية، وتضمن وثائق تصوّر الدمار الذي لحق بسورية، ويبيّن مدى تأثير الأزمة السورية على الاقتصاد السوري، وسبقه معرضي التوثيقي أيضاً: “فلسطين أمس واليوم وغداً”».
ملده شويكاني