متأبطاً يومي
أكسم طلاع
في ممر طويل تشغله “بالات” الورق والكتب المدرسية بين جدارين، أحدهما خشبي والآخر إسمنتي أبيض، لا نافذة فيه ولا أي أثر أو معلم يوحي أن خلف هذا الجدار قاعة تملؤها الآلات القديمة، ومساطر من الحروف المعدنية المرتبة حيث كانت تنضد الجريدة حرفا حرفا، هنا في هذا القسم، قسم التنضيد الرصاصي الذي نعبر من أمامه وصولاً إلى قسم التنضيد الإلكتروني فيما بعد، حيث قسم الإخراج ومعالجة الصور وعمليات التحضير الطباعي من فرز للألوان وسحب الأفلام ومن ثم البلاكات التي ستصل إلى آلة الطباعة، أو الجرس والصوت العالي ورولات الورق ورائحة الحبر والكاز التي أميزها جيدا من بين كل الروائح لطول معايشتي لها، ما يقارب العشرين عاما قضيت جل أمسياتها في هذا المكان المميز بدرج الرخام الطويل بدرابزينه الحديدي وممره الواصل بين قسم الأخبار والشاشات الزرقاء التي ارتسمت عليها صفحات الجريدة وثوابتها البصرية، والوقت الثمين الذي يمر سريعا نسابقه وننتظر تعليمات المحرر المناوب أو الإدارة أو ننتظر خبراً لم تصلنا توابعه وتفاصيله وصوره، مما يضطرنا لطبعة ثانية من الجريدة.. قلق يومي ومسؤول نتقاسمه جميعاً ولسنوات.
العمل في الصحافة متعة القلق والمتابعة وهي الهاجس المدلل البعيد عن الوظيفة، القريب من الميل والهواية والوجود الشخصي والهوية المشغولة بالعام والإنسانية.. أن تقرأ أحيانا ولا تحب أن تقرأ، أو أن تقرأ ولا تحب أن ينتهي النص الذي تقرأ.. يومك لا تعرف من أين يبدأ، من قراءة الجريدة أو من طباعتها؟ أو من حين الوصول إليها أول الليل؟ أو الخروج منها عند الفجر متأبطا يومك إلى بيتك الثاني الذي يرمم رئتيك ويوفر مناخ القراءة الثانية بعد كأس الشاي الأول، حيث تلتحق بك عائلتك تقاسمك شايك وجريدتك ورائحة الحبر والخبز والوطن بصباحه الطازج.
تعلمنا من بعضنا كثيراً وكبرنا ببعضنا.. مثل وطن صغير مثقف ومتسامح مع بعضه.. ومتواضع تجاه نزوة الأنا والغرور، في يقين أن هذا البيت سيبقى عاليا برسالته الوطنية والبعثية.