“العراب” بين الرواية والدراما.. من سينتصر!
عندما نتحدث عن الاقتباسات وأنواعها، تظهر الروايات كأحد المصادر الرئيسية للأفلام، فهو واقع يجعل جزءاً جيداً من الأفلام مصانة بشكل ما من الخيبات، خاصة إذا حققت الرواية نجاحاً واضحاً، واحتلت مراكز هامة في لوائح مبيعات الكتب، وانتقلت للشاشة الكبيرة، فتصبح لها شهرتها العالمية، ونجاحها الإعلامي الواسع، ما يعطي الفيلم انطلاقة كبيرة في سباق شباك التذاكر العالمي.
عام 1969، سجلت رواية “العراب” للكاتب ماريو بوزو منذ صدورها أكبر رقم عرفته أية رواية عالمية في التوزيع حتى اليوم، وبقيت تباع بالملايين في جميع أنحاء العالم بعد أن ترجمت إلى معظم اللغات، وبالرغم من أن هذه الرواية تشد القارئ إليها وتتركه مذهولاً من أحداثها، والتشويق الذي يكتنف أحداثها، إلا أنها تعطي صورة صادقة عبر تحليلها للمجتمع الأمريكي الذي خضع حتى أعلى مستوى فيه لنفوذ عصابات “المافيا”، هذه العصابات التي يمثل “العراب” رأساً من رؤوسها الخطيرة، ويمثل أولاده فيها أدوار القتل والإجرام والجنس والوحشية.
تتحدث الرواية عن الحروب الباردة بين عصابات المافيا في النصف الأول من القرن العشرين حتى أواخر السبعينيات منه، عن شخصية خيالية لرئيس مافيا ايطالي في أمريكا “دون فيتو كورليوني” “العراب”، وهو رجل ذو نفوذ وقوة، في الحقيقة، الرواية ما هي إلا قراءة في خبرة رجل ليس من الممكن نسيانه، هو طاغية، لكنه طيب وودود، وزعيم يترأس امبراطورية واسعة، قاتل يمنح صداقته، ولا أحد يجرؤ على رفضها، حتى القتل ليس شيئاً عظيماً كثمن للعدالة، هي قصة شخصية يمتد تأثيرها إلى مختلف المستويات في المجتمع الأمريكي.
وحسب الآراء المتداولة في تقييم هذا المنجز، تبقى للرواية لذتها وجمالها، وتبقى أغنى وأعمق بالتحليل، ففي عام 1971 اشترى منتج شركة “برامونت” حق تحويل الرواية العالمية “العراب” إلى فيلم سينمائي في هوليوود يحمل الاسم ذاته، واقتبس منها فيلماً ضخماً بقي قيد العرض في كثير من دور السينما في العالم لفترة طويلة، وشهد إقبالاً فاق الإقبال على أشهر فيلمين عالميين هما: “ذهب مع الريح”، و”صوت الموسيقا” اللذان تزامن عرضهما في تلك الفترة.
أياً كان، ومهما اختلفت النظرات والرؤى، لا يمكن ذكر أفلام هوليوود الأسطورية والتاريخية المؤثّرة دون ذكر ثلاثية الفيلم العظيم “العراب”.. حقيقة، هناك بعض الأفلام التي يأسر فيها ممثلوها المشاهد لدرجة كبيرة حتى تطغى أحياناً على تقييم فكرة الفيلم نفسها وقصته، وتجعله منسجماً معه تماماً بممثّليه، و”العراب” هو أحدها.
لقد حققت سلسلة أفلام “الأب الروحي” نجاحاً كبيراً، واعتبره النقاد من أعظم الأفلام التي أنتجتها هوليوود، حيث تميز ببراعة أداء الممثلين، والسيناريو الرائع، والإخراج المتميز، ورغم أن المخرج فرانسيس كوبولا اعترف بأن شركة الإنتاج لم تصرف كثيراً على الفيلم، وأنه كان خائفاً جداً من ألا يخرج بالصورة الراقية التي رسمها له، إلا أن الفيلم حقق إيرادات عالية لم تكن متوقعة، وعلّق الكاتب ساخراً بأنه بعد هذه الرواية لا يوجد بيت في أمريكا لا يتمنى أن توجد في عائلته شخصية مثل “فيتو كورليوني”.
يعتبر العراب أساساً للثقافة السينمائية، فهو فيلم يكرّس مبادئ وأخلاقيات- على الرغم من أنه عن المافيا الايطالية في أمريكا- ويطرح العديد من التضمينات المهمّة، كالصراع بين العودة إلى الأصل الايطالي في التفكير والأفعال، واندماج المهاجرين مع النظام الأمريكي الجديد، والفساد الذي يعمّ السياسة والشخصيات العامة والدبلوماسية، وأنّه لا يقل عن الفساد الموجود حتى في المنظمات الإجرامية، وربما أكثر، والاختلاف بين عالمي الرجال والنساء، وقيمة العائلة لدى عصابات المافيا، ومحاولة الفصل المستمر بين العمل والشخصنة، وغيرها الكثير.. إن الاختبار الحقيقي لأي فيلم هو اختبار الزمن، و”العراب” نجح في هذا الاختبار بامتياز، وبرصيد يزيد عن ثلاثين سنة مازال خلالها من روائع الفن السينمائي.
تبقى كل شخصية في الفيلم حاضرة في الذاكرة مهما كان الدور الذي تؤديه، ويعود الفضل في ذلك للسيناريو الرائع الذي كتبه ماريو بوزو نفسه مع كوبولا، والذي منح كل شخصية لمستها المؤثرة في الفيلم، بغض النظر عن مساحتها، بالإضافة للإخراج المتقن من كوبولا، ويبقى النجم الأكبر في الفيلم “آل باتشينو”، وقد لا يكون الأمر صحيحاً فيما يتعلق بالروايات التي غالباً ما تنتهي القصة بكتاب معين قبل تنازع شركات الإنتاج على شراء حقوق صنع فيلم مقتبس عنها، وعملية التحول من رواية إلى نص جيد لفيلم قد تكون مرهقة نظراً للكم الهائل من الاختصار الذي يقع على عاتق كاتب السيناريو لكي نشاهد جميع التفاصيل الهامة، والحبكات المثيرة في القصة بغضون ساعتين، وليس في وقت لا متناه من مدة العرض.
وفي الحقيقة، تعتبر السينما لغة التكثيف والاختزال، فيما للتلفزيون أدوات مختلفة، وتقييم آخر، واليوم في الموسم الرمضاني الحالي الذي شارف على الانتهاء، وجد المشاهد العربي نفسه أمام “عرابين”، حيث اتجهت أهم شركتي إنتاج سوريتين نحو المشروع ذاته، مع الإصرار على تقديم “الأكشن”، والخوض في عوالم المافيا، وهي مواضيع جديدة على الدراما السورية، لكن الخيار وقع على قصة تعتبر واحدة من أيقونات السينما العالمية.. في الواقع، العمل مأخوذ عن رواية قدمت في ساعات سينمائية، فكيف للثلاثية الهوليوودية التاريخية (العراب) أن تكون بنكهة عربية، مع إضافات قصصية ألا تقع في مطب التطويل!.
في النهاية، ليس ذلك بجديد، فالحالة ذاتها تكرّرت في الدراما السورية في مسلسل “صلاح الدين” الذي أنجزه المخرج حاتم علي سنة 2001، كتابة وليد سيف، وبطولة: جمال سليمان، وحقق المسلسل نجاحاً باهراً، وفي العام ذاته أنجز المخرج نجدت أنزور مسلسلاً عن “صلاح الدين” للكاتب محمود عبد الكريم، لكن ردود الفعل على العملين كانت متفاوتة، وأثارت الكثير من الإشكاليات والجدل، فهل ستتكرر الحالة مع مسلسل “العراب” الذي يُعرض في الموسم الحالي بنسختين مختلفتين، قاسمهما المشترك رواية “العراب”.. سؤال تحسم إجابته ردود فعل الجمهور والنقاد.
جمان بركات