ثقافةصحيفة البعث

أبو رامي السبعيني: الحياة أقسى بكثير مما قد تتصور

لم ينهض حينما كنت أهزه هزا خفيفا وأنا أخاطبه بـ”ياعم”، إلا أنه وقبل أن أكمل قولي للمرة الثالثة، رفع وجهه ونظر بمرارة، شعرت بها وكأنها هواء يصفع وجهي بقوة، وعاد إلى وضع يديه تحت رأسه وأغمض عينيه مرة أخرى.

الطريق خال من المارة، رغم أن الساعة لم تكن تجاوزت العاشرة ليلا، لكن ليالي دمشق لم تعد على حالها الذي كان، حيث الحياة متواصلة في العديد من الشوارع الدمشقية، واليوم ربما تلتقي بشاب يُقلب في القمامة بحثا عن تلك العلب المعدنية، التي كانت ممتلئة بعصير ما، وربما تلتقي برجل وامرأة يتأبطان ذراع بعضهما البعض، بالعموم، إنها ليست خالية نهائيا، لكنها مقفرة وموحشة.

لم أستطع أن أدير ظهري للرجل النائم فوق عتبة أحد المحال التجارية رغم نزقه المفهوم، وامضي في سبيلي وكأني لم أره، لكن هذا ليس صحيحا، فقد رأيته بالحال التي هو عليها، رجعت إليه مرة ثانية، وكان صوتي أعلى هذه المرة، فنهض الرجل وهو مغتاظ قائلا: ماذا تريد مني؟ قلت له أنه هنا سوف ينخر البرد عظامه فلا غطاء عليه، وما من حاجز بينه وبين السيراميك المتجمد، إلا قميص مهترئ يرتديه. سألته لماذا تنام هنا؟ نظر إلى وكأنه يقول: هل حقا لا تعرف لماذا أنام هنا؟ بالتأكيد سؤال غبي قلت لنفسي، لكنني كنت أحاول أن أجعل الحديث بيننا يأخذ جانبا إنسانيا محضا، إلا أن هذا لم يحدث، فهذا الرجل السبعيني، لم تعد تعنيه الحياة، والنوم هو كل ما يريده، ولولا أنه بحاجة للطعام وغيره، لبقي نائما أبدا.

“سامحك الله لماذا أيقظتني”؟ لم ينتظر جوابي، هل تعلم أنني تعبت جدا حتى غفوت، الآن كيف لي أن أعود إلى النوم مرة أخرى.

اقترحت عليه أن ثمة جامع في المنطقة، والعديد من الأشخاص ينامون فيه، وهو دافئ، على الأقل أدفأ من هنا. أجابني: بالله عليك دعني وشأني، قالها وهو شارد في البلاط تحت ناظريه، “أعرف أن هناك جامع أستطيع النوم فيه، ولكن مثلي لا يستطيع أن يهنأ حتى لو نام على ريش نعام”!

أبو رامي، أو أبو ليلى كما يُنادى الآن، كان صاحب بيت ولديه أسرة، زوجته وولداه وابنته المتزوجة، وهي في شهورها الأخيرة من الحمل، لكن أبو رامي لا يعلم عنهم شيئا مذ هربوا من ريف ادلب منذ عدة سنوات، فقد تمت ملاحقتهم من قبل القتلة المتمركزين في المدينة وريفها، ركض الرجل وأسرته في غابة صغيرة، وصوت عدة طلقات نارية تئز قربه، كان يسمع أزيزها، وهو يركض دون أن ينتبه أيضا إلى الأشواك والحجارة المسننة التي داس عليها أثناء ركضه، بينما الرصاص يلحق به، وعندما غاب عنه صوت أسرته، أدار وجهه يمنينا ويسارا ليراهم، لكن العتم الشديد لم يمكنه من ذلك خصوصا وأن صوت الرصاص يغطي على أي صوت، نادى عليهم بصوت خفيض أولا، بدأ يرفع رويدا رويدا، لكنه لم يلقَ جوابا، ظن بداية أنهم لا بد وأن يكونوا اختبؤوا في مكان ما، إلا أن الصرة الملطخة بالدماء، والتي كانت تحملها المرأة الحامل، كانت هي آخر شيء رآه يخص عائلته، مشى طويلا يبحث في الشقوق وبين الأشجار وعليها، لكن نظراته عادت بالحسرة عليه، فجلس متكئا على شجرة، وهو يحاول أن يتذكر اللحظة التي اختفوا فيها وهم يركضون إلى جانبه، إلا أن ذاكرته حول هذه النقطة بالذات لم تسعفه، وعندما طلع الصباح عليه، قام محاولا البحث عن عائلته، إلا أن العبث هو ما كان يلقاه وكأنه ينتظره.

أبو رامي رجل سوري وهو أب وأخ وزوج وجد، وبعد كل هذا العمر، كان من أقسى ما اختبره في حياته حتى تلك اللحظة، هو مغادرته لدارته، التي ورثها عن أبيه: “كنت في تلك اللحظة أتذكر وأفكر بالبيت، الذي تهدم نصفه، وكنت مطمئنا رغم الخوف، أن أسرتي إلى جانبي، ونحن نركض هربا من الموت”، إلا أن الصباح كشف له عن مصاب، سوف يثقب قلبه إلى الأبد، وهو ينظر يابسة عروقه،إلى جثمان ابنه الأصغر، مضرجا بالدماء، حمله وبقي يومين يحمله مفجوعا وهو يفتش عن بقية أسرته، لكنه لم يجد شيئا، خرج بابنه الميت على كتفه، وذهب إلى الشارع الذي كان قد رآه صباحا، “لم يقف أحدا لمساعدتنا، كنت أهذي، ولم اشعر بأي شيء بعدها”، إلا عندما استفاق على أحد الأسرة في مشفى، لم يعرف كيف وصل إليه، كان الطبيب يتفقد المرضى صباحا، عندما فحص أبو رامي، ووجد أنه يستطيع الخروج من المشفى، وعندما سأل عن الفتى الذي كان معه، أخبروه أنه في براد المشفى.

الرجل الذي فقد حياة كاملة لعائلة سورية محترمة، لم يعد عقله يستوعب إلا فكرة واحدة، وهي أنه سيلتقي بأسرته، فالانتظار افترسه، كما فعلت الوحشة والقهر، ومن يومها بقي يمشي هائما على وجهه، وفي المكان الذي يقف فيه غير قادر على الحركة، يفترش عتبات المحال التجارية سريرا له، يغفو بعد جهد وهو متدثر بحلم واحد فقط، فهو وحده ما يجعله محسوبا على الأحياء.

رفض أبو رامي طلبي إليه أن يذهب إلى الجامع قائلاً: “برحمة أبوك دعني نائما، لا أريد أن أفيق”.

تمّام علي بركات