في وقفة حول تجربته في الهيئة العامة للكتاب..
د.جهاد بكفلوني: دور “الوساطات” معطّل كليّاً لا جزئيّاً في الهيئة العامة السورية للكتابالهيئة العامة السورية للكتاب مؤسسة عامة ذات طابع ثقافي تتبع لـوزارة الثقافة، تعنى بنشر الكتب المؤلفة والمحققة والمترجمة في مختلف مجالات المعرفة والثقافة والعلوم، وكذلك الإسهام في تطوير الحركة الفكرية والثقافية ونشاطات القراءة وصناعة الكتاب، إضافة إلى تعريف المجتمع العربي السوري بالحركات والاتجاهات الفكرية والثقافية والأدبية المحلية والعربية والعالمية، وتنمية المدارك الفكرية والوطنية والقومية والإنسانية، والعقلانية في التفكير.”البعث” التقت مدير الهيئة العامة للكتاب د. “جهاد بكفلوني” للإضاءة على العديد من الجوانب التي أثارت العديد من التساؤلات بين رافض لسياسات الهيئة في استراتيجيتها لنشر الفكر والثقافة من خلال إصداراتها المتنوعة للكتاب، ومن بعض جوانب هذا الرفض لسياساتها هو دخول مفهوم “الواسطة” على منبر فكري لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تدخله، وبين من يجد فيها أحد أهم روافد الفكر والثقافة في سورية بل ومنتجها الرسمي. وكان الحوار التالي:
< هل ترى داعياً موجباً لوجود هذه الهيئة كجهة تنفق عليها الدولة وتخسر، أو بعبارة أخرى ماذا تضيف هذه الهيئة للحياة الاجتماعية والثقافية السورية؟
<< لم تقدم وزارة الثقافة على هذه الخطوة المهمّة المتمثّلة بإحداث الهيئة العامّة السوريّة للكتاب إلاّ لإيمانها بأهميّة الكتاب في حياة المواطن، فهو غذاء الرّوح وريّها، والعقلُ الذي لا يصحب الكتابَ عقل مصابٌ بتصلّب الشرايين، ومحكوم عليه بالموت البطيء أو السّريع، العقلُ الذي يرفد صفحاته البيضاء بالمداد الأسود يعلم أنّ هذا السواد سيضيءُ نورَ معرفةٍ نقلت الإنسان من حال الانكفاء على الذات والشعور بالانهزام أمام جبروت الطبيعة، إلى حال تطويع الطبيعة وتسخيرها لتحقيق نمطٍ راقٍ من الحياة، هذا العقل يمرّ بحالةِ خمودٍ يطول أمدُها، والخمود مرحلة على طريق الهمود الذي قد لا تقوم له قائمة بعده، ولا سبيل لانتشاله من هذه الهوّة السحيقة إلاّ باللوذ بالكتاب الذي يظل خيراً وأبقى.
وإذا أردتَ أن تعرفَ أهمية الهيئة العامّة السوريّة للكتاب –يتابع بكفلوني- فما عليك إلاّ رصد يومِ عملٍ فيها، والتركيز في هذا اليوم على حجم المخطوطات التي تنهال عليها حاملةً أطياباً وأطيافاً فكريّة شتّى، من مؤلّفات، ترجمات، مخطوطات تتناول تراثنا العربيّ الغنيّ، من منشورات متعلّقة بالأطفال وغير ذلك، وتدفّق هذه المخطوطات بهذا الكمّ الكبير يريك أهميّة الهيئة في الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في سورية التي تتقن أبجديّة الحياة الحرّة الكريمة رغم أنوف الحاقدين، الهيئة يد بيضاء أسدتها الدولة إلى الثقافة والمثقّفين، فشكراً لها على ما قدّمتْ.
< قيل إن الكاتب في عصر المأمون كان يحصل على أجر مقداره وزن كتابه ذهباً، بينما الآن يعمد البعض من الكتّاب لاتباع طرق مختلفة وملتفة أحياناً لنشر كتبهم، كالوسائط والمعارف الشخصية اللتين تعتبران من أكثر الانتقادات حدة بحق الهيئة، كيف تصفون هذا التحول بين ما كانت عليه حال الكاتب وما هي عليه الآن؟
<< عندما تتعامل مع الكتاب بصدقٍ ونزاهةٍ وموضوعيّة بعيداً عن الرغبّة في إرضاء فلان، أو الحرص على التقرّب من فلان؛ فما عليك إلاّ أن تقلب قاعدة (غريشام) في النقد التي تقول: ((العملة الرديئة تطرد العملة الجيّدة من الأسواق)). وفي حالة الكتاب تسود القاعدة التالية: الكتاب الجيّد يطرد الكتاب الرّديء من الأسواق ولا يترك له موطئ قدمٍ.
بوسعك سؤال المتعاملين مع الهيئة -يضيف بكفلوني- عن دور الوسائط والعلاقات الشخصيّة والمعارف في منح المخطوط الرديء تأشيرة دخول إلى المطبعة الخاصّة بالهيئة، وأستطيع أن أؤكّد لك أنّ دور هذه الوساطات معطّل كليّاً لا جزئيّاً، نحن نعمل في خدمة الوطن، وقد وضع أبناء الوطن ثقتهم فينا ويجب أن نكون عند حسن ظنّهم بنا، وأرجو صادقاً أن نظلّ أهلاً لحمل هذه الأمانة لاسيّما في هذه الظروف العصيبة التي يمرّ بها وطننا الغالي.
أما بالنسبة لموضوع مكافأة الكاتب، فأنا أقول إننا لا نقصّر في ذلك، ويسجَّل للسيّد وزير الثقافة تجاوبه الدّائم مع حرصنا الملح على رفع المكافآت التي يحصل عليها الكتّاب، وهو يتابع الموضوع بصورة مستمرّة انطلاقاً من قناعته الراسخة بأهميّة الكتاب في حياة الوطن والمواطنين. بالطبع عصر المأمون يبقى نقطة تندى إشراقاً وألقاً في تاريخ الفكر العربيّ بل الإنسانيّ كلّه.
< لو أنك من الذين ينتقدون أداء الهيئة، كيف يمكن أن تنتقدها؟
<< عامل الزمن مازال يلعب دوره غير الإيجابيّ ولا أقول السلبيّ في البتّ في المخطوطات، وأعذر صاحب المخطوطة الذي يشعر بالثواني جمراتٍ في دمه وهو بانتظار معرفة مصير ما تقدّم به، ونشرح له أنّ التباطؤ مردود إلى التعامل مع قرّاء من خارج الهيئة قد يتأخرون أحياناً في البتّ في مصير المخطوطة، ونحن نتحمّل على مضض تأخّرهم لحاجتنا إلى عقولهم النيّرة وخبراتهم الكبيرة، وأتمنّى أن نتخلّص من هذا العيب الذي لا يسرّنا وجوده في عمل الهيئة. وهناك موضوع آخر يؤرّق الوزارة والهيئة معاً هو عامل تسويق الكتب الصّادرة عن الهيئة، وربّما عزونا التقصير في التسويق إلى ما نمرّ به من ظروف صعبة، ونتمنّى أن تنشط حركة توزيع الكتاب وتسويقه، فعندما يكون الكتاب بخير يكون الوطن بخير.
< ما هي السياسة العامة التي ستتخذونها لتفعيل دور الثقافة بشكل أكثر حتمية وقدرة على تغيير ثقافة الهدم التي سادت العديد من نفوس السوريين؟.
<< تولي وزارة الثقافة هذا الموضوع جلَّ اهتمامها، وتركّز على ثقافة الطفل الذي تعرضت بنيته النفسيّة لآثار مؤذية تسيء إلى الطفولة وبراءتها، وتعمل الوزارة مع الجهات المعنيّة جاهدة على تنشئة جيل يتجاوز الآثار السلبيّة للأزمة، وتكريس ثقافة تقبّل الرأي الآخر، الابتعاد عن التعصّب، الانفتاح على الآخرين، وتحرص الهيئة من خلال الكتب الصادرة عنها على تكريس هذه القيم والمفاهيم انطلاقاً من قناعتها بضرورة التفكير فيما بعد الأزمة لا الارتماء في قضبانها التي ستزول من عقولنا إن لم تكن قد زالتْ فعلاً. فسورية أرض التسامح والتعايش بين الحضارات والمذاهب والأديان والعقائد، ولن نسمح لليد الغريبة الدّخيلة بتخريب مفاهيم عشنا عليها وآمنّا بها إيمان النّهار بشمسه والرّبيع بعطره.
< خير جليس في الأنام كتاب..كيف تسعى الهيئة لأن تجعل من هذه الحكمة عنواناً لمرحلة جديدة في سورية؟ وأيضاً كيف ستنافس الهيئة العامة السورية للكتاب دور النشر الأخرى، وكيف ستنهض بالثقافة السورية؟.
<< عد إذا سمحتَ إلى كتب الهيئة، فهذه العودة تريك الخطوات العمليّة التي تسير عليها في تكريس مفهوم ( الكتاب خير جليس). المعالم الواضحة لهذه الخطوات هي: تقديم الكتاب الجيّد، تنوّع المواضيع التي يتناولها المؤلّفون في نتاجهم، السلاسل الشهريّة المنتظمة في صدورها، وتباع بثمن رمزيّ، ولك أن تتصوّر أنّ كتاباً يصل عدد صفحاته إلى 500 صفحة أحياناً يجمع وروده غلاف أنيق، ينام في حضن ورق صقيل ناعم الملمس كراحةِ الطفل، كتاب كهذا يباع بسعر 100 ليرة سورية فقط. ونحن لدينا سلسلة بعنوان (مكتبة الطفولة) تصدر ملوّنة وبخطٍّ موشّى منمنم ململمٍ يباع العدد منها بخمس وثلاثين ليرة سورية، والمؤلف يحصل على خمسين نسخة مجانيّة من كتابه المطبوع في الهيئة، وعندما يطلب نسخاً إضافيّة نهديه بموافقة كريمة من السيّد وزير الثقافة هذه النّسخ. أليس في ذلك كلّه وضع لبنات لبناء بيتٍ يأوي إليه الكتاب معزّزاً مكرّماً ليكون خيرَ جليس بالفعل؟!.
ومن حيث تنافس الهيئة مع دور النشر الأخرى فالهيئة ليس لديها هدف تنافسيّ لأنّ هدفها ينصبّ على تأمين الكتاب الجيّد الذي يروي ظمأ القارئ إلى القراءة.
< تعاني الهيئة العامة السورية للكتاب من غياب أي بحوث مسحية واستطلاعية ترصد لها الصدى الذي تحققه كتبها عند القراء “رجع الصدى” كعدد (الكتب المباعة، الكتب المطبوعة، الكتب المرتجعة). كيف ستعرفون في المرحلة المقبلة إذا حققت كتب الهيئة الهدف المراد من طبعها؟
<< نحن نهتم بلا شك بهذا الموضوع ونولي آراء الكتاب والمثقفين والجمهور عناية خاصة حيث نعد هذه الآراء هي ما نهتدي به للصواب في عملنا، لكن للأسف ليس هناك مركز أبحاث لا على مستوى الهيئة ولا على مستوى القطر، لمعرفة اتجاهات الرأي العام ونتمنى أن تتوفر مستقبلاً هذه المراكز.
تمام علي بركات