ثقافة

الشاعر محمد توفيق يونس.. ونقلة نوعية بين “حالات” و”أبجدية الجسد”

حينما تكون اللغة هي الأداة الواصلة لمعرفة الجلال الرباني في الكون والظواهر والأشياء، تظلّ القصيدة بتعريف مالارميه: (حدثٌ في اللغةِ)، وتظلُ تلكَ العاشقة السّاحرة(توقظُ الأرواح النائمة في اللغةِ) لكيْ (تصلَ إلى المجهول)- حسب تعبير الشاعر الرائي رامبو.
وأيا تكون صلة العاشق بالأدب ستلتقي حتماً مع التجارب الشعرية الصوفية الأخرى شرقاً وغرباً،لكن الوعي بحقيقة دلالة  هذه اللغة /العاشقة  تكمن في وظيفة الحواس التي تنهض بالإجابة عن كثير من الأسئلة الوجودية التي تدور في خلد الشاعر وتمثل  تجربة الشاعر د. “محمد توفيق يونس” نقلة نوعية في صرح الشعر الصوفي السوري المعاصر. وظهر الوجود كلوحة وجودية مكثفة الألوان عبر مرآة الشاعر الصافية المشرقة بالرؤى الفيّاضة، وظهرت شطحاته عبر فيضه الوجدي  بدلالات كثيرة غير مباشرة  تحتاج إلى كد ذهني لمعرفتها،لندرك مدى انطباق “حالات”على نظرية التواصل،أو التأثر والتأثير،أو ما يعرف اليوم بنظرية التناص، وهذا ما نراه في المجموعتين الشعريتين:حالات” و”أبجدية الجسد”.
وقصيدة “محمد توفيق  يونس” ترهن طاقتها التعبيرية إلى نَفَس الشاعر الطويل، وإلى فضاءات المغامر والحالم والمؤول والسيميائي، وصاحب النص المفتوح، والأسئلة الوجودية، وأسفار الجسد والشهوة والخيبة والذهاب إلى شروق الفكرة، حيث صوفية الإشراق، ولذة المريد، وتجريدية العارف بالسرائر. وهذا ما نفد إليه في قوله: “كيف تمسكين السرَّ والسريرة،والحواسَّ الخمس/ وتتركين الرمحَ المشتعل في برزخ احتفائك،ثملاً “/ص-45 إذ جعل اللغة  الشّفافة الموحية أداته للانتقال من الصمت إلى الصوت الدلالي،ومن الصوت الدلالي إلى الصوت الفكري في عملية استشراف منظومته الفكرية،مستفيداً من الحواس البصيرة في النفاذ إلى ما وراءها من أسرار وإشارات بين الله والكون، مؤكداً رغبته وإرادته في تحرير روحه الشعريّة من قيد الجسد ورغباته المادية،وإعادتها إلى الجوهر السامي.
كما نجده في قوله :”أتوحّد في مائك /وسريرُ الضوء هو هذا اللقاء.” /ص-86 وذلك يستدعي قراءة ماكرة،للكشف عن أقنعة قارّة لتورية المعنى، ولشهوة الاختباء في معطف اللغة، إذ يبحث الشاعر عما هو ضدها، وعن الحياة المشبوكة بالحلم والبحث الدائب عن انعكاس وجودها الباهر في مرآة المعنى وفي لذة البوح..إذ يقول:”مُذْ  كتبتُ اسمك،على صخرة البحر، صارت الصخرة مرآة،والبحر امرأة.” ص- 53
يمثل الدخول في هذه الحالات (الوحيانيَّة) لحظة انخطاف لا تستطيع اللغةُ المباشرة أن تعبِّر عنها، وإنما تعبِّر عنها لغةُ الحواس المتمثِّلة في الشعر بكلّ مفرداته المجازية، فينضم الشاعر يونس إلى تلك الأصوات الشعرية المتعمّدة في نار الوجد الصوفي الذي يحرق طينه زخرفاً شعرياً، وتشكل حالاته امتداداً أفقياً لتجربته الشعرية الصوفية،والتي تبنى على لغة بركانية متفجرة بقوة ذخيرتها الباطنية.
ويقودنا هذا البركان من “حالة للروح”وعمق الرغبة خيالاً ويحتفي باللغة إلى حد الافتتان بها،ممّا يجعل حالاته مغامرة عشق حيث إن الحضور الطاغي للغة يستحضر معه خصوصية التأويل والاختلاف والتنوع الدلالي/ حالة للطيف وللمكاشفة.. ولسان حاله يقول: “وبين وقتكِ ووقتي/أجدد داخلي /كي تعودَ الروحُ../إلى أعياد الشخوص/ص7
وحسب العتبة المصاحبة للعناوين الفرعية كابد الشاعر “حالات ” الحريق ليعبر حال الانتقال، وهو يهيئ لمقام المكاشفة.. وتحولات الذات العاشقة وما تكابده في هذا المسار هو نسغ القصيدة وقوامها، فالمعشوق “كمثل شعاعٍ يلتصق بجسد الضياء”، ليلتصق به الشاعر فيزداد عطشا وألقاً وبعداً، وما التوغل فيها سوى التوغل بأنوثة اللغة. إذ يقول: يرسم الجسد فضاء نشوة/تتفتّح،في حضرة الأبجدية/كلُّ ما أسمع  يقينٌ،/يلبس حدس الزمان /ويسكبُ خابيات اللذائذ/ص55
ويلبس “يونس”العريَ ويجيء بطيئاً إلى صدر القارّة،ويستعيد حالة العالم والذات /الأنثى عبر اللغة، يمارس من خلالها طقوسه العشقية وفطرته اليقينية في التمرد والصخب وفي التجاوز، وحتى في تضخيم الأنا، بوصفها صاحبة العتمة والضياء.  ويصور تجليات الأنوثة ومعجم العشق يسير نحو الكشف المشتهى،وهو القائل: (لن أنسى ذلك اليوم/ الذي يسري بيني وبينك / ذلك يكفي أن ألتف حولك..) –ص74.
وهذا التمثل الشعري/الإستعاري يجعل الشاعر الأقرب إلى نسج ثوب مزاجه، أو لبس أوجاعه، وإلى زرع ما يبوح من سرائر كشوفاته، وهواجس غرائزه، واستحضار أنثاه، وانتهاك المخفي في سيرته، تلك التي تدفعه إلى التلذذ باعتراف ضمير (الأنا) ضمير المزاج، ومساكنة ما يتساقط من(فائض المعنى) كما يسميه بول ريكور، أو بما يجعله أكثر بحثا عن وجوه أخرى ومتعددة في سيمياء النص، حيث (لا يوجد معنى حقيقي للنص) كما يقول بول فاليري..
وقال نحو ذلك:”أنا الذي يسري /مع الحُلم ../حُلمٌ.. يطوف الجسد/ويلبسُ الروح../وأعلم أنني أستطيع فيه أن آخذك الآن /أو بعد ألفٍ من السنين../لأنك المفرد بلا عمر /فكرة تنسج الزمن /صفاء لوجود /ينغرسُ فيك ينمو / ص90
وإذا كان الزمان يتلاشى وراء الأفكار فإنَّ”أبجدية الجسد  تحقق الحضور الوجودي وتوازي الزمن الدائري بوصفها تحمل انعتاقاً للروح من شهواتها، ويشتغل الشاعر في شعره على المناطق المعتمة ونراه في قصائده يبرز ما هو جواني ومكتوم من المشاعر والأحاسيس فـ”أبجدية الجسد” أبجدية السالك إلى الذات الإلهية،وشدّة الوجد بها تتحرك بذلك التجلي الحسي المطلق، ويؤسس على التعارض بين العالم الروحي والمادي ويؤسس أبجديته على توتر السؤال الصامت الناطق بينهما حيث يقول: (هل الجسد عين الحقيقة؟)ص-47/”هو أنت،جوابٌ/وهكذا،يجب أن تكوني من غير سؤال،سعادةً، كالنور البهيج حضوراً.
وكذا في “حالات” نعثر على قاموس “يونس”الشعري وخلاصة رؤيته للحياة والعالم الذي هو جزء منهما: “حالة الروح، اليقين، النفس، الحلم، الخيال، الحب، البعد، الانتقال” ويمكن أن نلحظ بوضوح غلبة حالة الحب وتنويعاته ليتخذ الشاعر منه بؤرا للتعبير الشعري ومركز الإشراق الدلالي.
ويتلبس الشاعر هاجس القصيدة الواحدة، قصيدة الأفكار والتأملات والاستعادات، لكنه يدرك خطورة الانخراط في هذه اللعبة، لذا هو يعمد إلى صناعة الجملة القصيرة بوصفها ملمحا فنيا وتعبيريا، يفكك من خلالها مبنى الجملة الطويلة بنثريتها وتركيبها، ويمنحها نوعا من الترسيم الاستعاري القائم على الضمائر،ويستحضر عبرها عناصر الإثارة بدءا من ثنائية الإشارات، وانتهاء بثنائية المطابقة والمخالفة في ثنائيات “الروح/النفس، واليقين/النور، والجسد/النشوة، الارتواء/الانتقال”.. حيث يصبح المعنى الدلالي لشدة إشراقه الاختراق خارج حدود المعنى. وهذا ماعبّر عنه في قوله: “هكذا أفهم أن الضوء معنى،ويكمل ما اخترعه الجسد”- ص 90
وهذه الثنائيات  المتخيلة – كبعض عناوين لحالاته – تجسّد هاجس الشاعر في بحثه عن الحقيقة، مثلما تجسد طاقته الحركية في توكيد أنموذجه الشعري، وما يمكن أن يستدعيه من لوازم تتعلق  بأبجدية الجسد /بالبناء، وبالزمن الشخصي والشعري في أن معاً أو حتى بما يشبه المنولوج الشعري الذي تتلون فيه الضمائر، وتتسع فيه الإحالات إلى استحضار ما هو غائب في قوله: “أنا يا صديقتي، أزعم أن الضوء القادم،من أعماق العتمة /انساب اهتداءً إلى باب الجسد/- ص 89
وأحسب أن هذه الحالة الشخصانية/العرفانية أسبغت على مجموعتيه توسيما أكد وحدتهما العضوية- على توصيف سوزان برنارد لقصيدة النثر.. بعضها للروح وبعضها للجسد..
وهذا الطواف في المكاشفات ما نحسب أننا شاركنا حاله أو أننا لمحنا بعض شهبه العابرة، وإن لم نتمكن الخلاص من غسق الحقيقة،يكفي أننا تضمخنا بعبقه النوراني،وكان لنا شرف الإدلاء بدلالة /أبجدية الجسد.
ــــــــــــــــــ
“حالات” و” أبجدية الجسد”: مجموعتان شعريتان للشاعر د.محمد توفيق يونس
أحلام غانم