“في سبيل العربية” للباحث الدكتور محمود السيد اللغة العربية تحتاج إلى تغيير في مناهجها وطرائق تدريسها واستخدامها
يقول جبران خليل جبران “الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه،فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر،وهو السلك الذي ينقل ما يحدثه عالم النفس إلى عالم البحث،وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين،الشاعر أبو اللغة وأمها تسير حيثما يسير،وتربض أينما يربض،وإذا ما قضى،جلست على قبره باكية منتحبة حتى يمرّ بها شاعر آخر،ويأخذ بيدها”.
هذا فيض من غيض من أقوال دوّنت ضمن صفحات كتاب في سبيل العربية الصادر عن وزارة الثقافة-الهيئة العامة السورية للكتاب للدكتور محمود السيد،والذي يأتي بعد سلسلة من الكتب الهادفة إلى إحياء اللغة العربية وحفظها ونشرها في الوطن العربي،لاسيما في الدول التي هيمنت عليها اللغة الإنكليزية،وكذلك الدول التي سادت على ألسنة سكانها الفرنسية. في هذا الكتاب يتناول الباحث واقع اللغة العربية في الوطن العربي ومستقبلها والمشكلات التي تقف في وجهها،عارضاً جملة حلول تطال مناهجها وطرائق تدريسها ومواكبتها روح العصر.معتمداً على دراسات باحثين في مجال اللغة وتاريخها وأقوال الكتّاب والشعراء ضمن مسار يأخذ البعد التوثيقي من خلال تجربته الميدانية في المؤتمرات العربية،واستناده إلى إحصاءات دقيقة بالنسب المئوية لواقع اللغة من حيث تعليمها واستخدامها ومناهجها وطرائق تدريسها،إضافة إلى ترتيب اللغات المتداولة عالمياً.الأمر اللافت أنه رغم السرد التوثيقي إلا أن صفحات الكتاب لاتخلو من ذاكرته الشعرية وأسلوبه التحليلي لاسيما أنه رئيس لجنة تمكين اللغة العربية وأستاذ جامعي لطرائق تدريسها .
نشاط إيجابي في التعلّم
وصف د. السيد في الفصل الأول “تصميم المناهج الجامعية” بالمناهج التقليدية التي تقتصر على الناحية العقلية للطالب،وتهمل جوانب عدة من النواحي الاجتماعية والنفسية من شخصيته،وفي الوقت ذاته لاتُعنى بإنماء النواحي العقلية ذات الدلالة في مجتمعنا العصري كتنمية التفكير الابتكاري عند الطالب،ولاتسهم في مساعدته على التكيّف مع الحياة المعاصرة والإسهام في حل مشكلاتها والعمل على تطويرها،وعرض د. السيد عملية التعلم التي لم تعد عملية بسيطة تقوم على عرض المعلومات من قبل المدرس واستقبالها من الطالب،بل هي عملية معقدة يقوم فيها الطالب بنشاط إيجابي لحل المشكلة،ولم تعد مواقف التعلم مواقف شكلية يقصد منها إكساب الدارسين معلومات معينة أو تدريبهم على مهارات يستعملونها في حياتهم المستقبلية،ولم يعد قطبا العملية التعليمية هما المدرس والطالب،بل أصبح الموقف مكوناً من متعلم وبيئة يتفاعل معها.
أصالة اللغة
لكنه اقترب أكثر من الواقع الحالي الذي تعيشه اللغة بمساحة كبيرة في فصل “أثر اللغة في الكيان العربي”افتتحه بأن وحدة الأمة العربية تتجلى في وحدة اللغة كما قال الشاعر
وتجمعنا جوامع كبريات وأولهن سيدة اللغات
وأكد. أن هناك علاقة جدلية بين اللغة والأمة،ثم تحدث عن تاريخ لغتنا العربية في الصمود في وجه الهجمات العنيفة التي واجهتها أمتنا العربية في تاريخها الطويل،ويرجع هذا إلى الأصالة التي جعلتها قادرة على البقاء متحدية كل وسائل النيل منها والعمل على وَأدها،فأصالتها هي التي يسّرت للعربية أن تطوع الثقافات القديمة لها من فارسية وهندية ويونانية دون أن تتنازل عن أصولها وقواعدها وسماتها،كما يعود السبب في صمودها إلى القرآن الكريم الذي يعد سياجاً للعربية حافظ عليها من الضياع،وفي منحى آخر فإن لغتنا العربية كانت عنوان قوميتنا العربية عبْر التاريخ واكبتها في كل مرحلة من مراحل قوتها وضعفها، ثم تناول الكاتب اللغة في قطاع الإعلام فقد كان للصحافة العربية في القرن الماضي أثر بارز في تطوير اللغة العربية على يد رعيل من الصحفيين كانوا أدباء في الوقت نفسه.
الإعلام واللغة
ومع التطور الحياتي اختلف الأمر لاسيما مع ظهور التلفزة على الخريطة العربية في خمسينيات القرن الماضي ومن ثم تضاعف عدد القنوات الفضائية.والأمر المؤسف أنه كان للفضائيات التلفزيونية العربية دور شديد السلبية بالإضرار باللغة العربية من خلال اختيار الأسماء مثل (ام بي سي –ارتي –اوربيت)،إضافة إلى اعتماد اللهجات المحلية المغرقة بعاميتها التي تعمل على تفكيك نسيج الأمة الثقافي، في حين أن الفصيحة عامل توحيد فالبرامج والمسلسلات المؤلفة والمدبلجة والمنوعات تبث بالعامية،أما الخطاب الديني فيعتمد العامية بحجة التبسيط والوصول إلى مختلف المستويات،كما انتشرت ظاهرة استخدام الأحرف اللاتينية على أنها بديل للحروف العربية في كتابة رسائل الهاتف المحمول.
هيمنة الإنكليزية والفرنسية
وفي العملية التعليمية في التعليم العالي في جامعات الوطن العربي،ففي المغرب العربي لم يتخلصوا من هيمنة اللغة الفرنسية مع وجود تشجيع للغة الأمازيغية،وفي الخليج تعلّم المواد العلمية في المدارس في دولة قطر باللغة الإنكليزية والتخصصات تدرس باللغة الإنكليزية في التعليم العالي حتى في كلية الشريعة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي دولة الإمارات توجد هيمنة للغة الإنكليزية على جميع التخصصات حتى في قسم اللغة العربية.وفي هذا الموضع أورد د. السيد أسئلة عدة وتساؤلات عن تمثل لغتنا العربية التراث العلمي والفلسفي لأعرق الحضارات،وعن تمكن العلماء الأجانب من نقل علومنا العربية في الطب والكيمياء والرياضيات والجغرافيا إلى لغاتهم؟وتطرق أيضا إلى إسرائيل التي تعمل على إحياء لغتها العبرية الميتة،وأصر في النهاية على التمسك باللغة خاصة بعد اهتمام السيد الرئيس بشار الأسد باللغة العربية لدورها الوطني والقومي والديني،وإصداره لقرار وضع خطة عمل وطنية للتمكين للغة العربية،والحفاظ عليها والاهتمام بإتقانها والارتقاء بها برئاسة الباحث د. السيد،وتقدم تقاريرها إلى د. نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية.
تفصيح العامية
وفي مستقبل اللغة العربية ومتطلبات العصر القادم أورد الباحث سلسلة من البنود التي يجب إتباعها لحفظ اللغة العربية،أهمها تفصيح العاميات التي غدت مستعملة في التعبير وتأخذ حيزاً من الفصيح، وينعكس هذا التفصيح إيجابياً على مسيرة الفصيحة.وتابع في الفصل الرابع مشكلات اللغة العربية،وخصص الفصل الخامس للبحث بشأن قضايا تنسيقية ملحة في مسيرة التعريب،وأكد في نهايته على أهمية ترجمة ما أسهم به العرب في مسيرة الحضارة الإنسانية ونشر روائع القيم الإنسانية واطلاع الآخرين عليها.وفي الفصل السادس اللغة العربية واللغات الأجنبية وموقعها في التعليم العام في الوطن العربي اعتمد على التوثيق الإحصائي لمعرفة واقع تعليم اللغتين في دول الوطن العربي مورداً بالنسب المئوية اللغة المعتمدة في تدريس المواد.
تعليم اللغات الأجنبية
لكن الأمر اللافت الذي ناقشه الباحث ضمن هذا الفصل هو إتاحة الفرصة لاختيار اللغة الأجنبية المتعلمة،وطرح تساؤلاً أورده د.الاقتصاد نزار العبد الله؟ لماذا لانعلم تلاميذنا اللغة الصينية أو اليابانية،وبيّن المنافع السياسية والاقتصادية التي يجنيها الوطن العربي لو تعلم أبناؤه الروسية والهندية واليابانية.
تغيير مستويات التقويم
وقابل هذا الفصل فصل واقع تدريس اللغة العربية في الجامعات العربية الذي عرّف فيه اللغة المستخدمة في التدريس الجامعي في الوطن العربي،ثم أشار إلى ضعف الخريجين باللغة العربية الذين يحمّلون المسؤولية إلى طرائق التدريس،فناقش الباحث طرائق التدريس والمناهج،وخلص إلى أن الطرائق الإلقائية التلقينية هي الأكثر شيوعاً،إضافة إلى أساليب التقويم التي لاتقيس إلا المستوى الأول من مستويات المعرفة ألا وهو الحفظ والتذكر والاسترجاع،أما المستويات العليا من حيث الفهم والربط والموازنة والاستنتاج والتحليل والتركيب والتطبيق والتفاعل والنقد والحكم والتحليل فنادراً ما تعتمده،كما أشاد الباحث بدور تدريس اللغة العربية لغير المتخصصين للارتقاء بلغتهم.
وجاء الجزء الأخير من الكتاب أشبه بحل لكل المشكلات التي تقف في وجه اللغة العربية،كما في فصل الاستثمار في اللغة العربية،الذي كان محور ندوة أقيمت في مجمع اللغة العربية للباحث بيّن من خلاله كيف نستثمر اللغة العربية لنشرها والحفاظ عليها،واختتم الكتاب بالتجربة السورية في التمكين باللغة العربية.
جاء الكتاب في 250 من القطع الكبير.
ملده شويكاني