ثقافة

شرود في حلم بعيد

ثلاث علب سردين وعلبة حمص أو مسبحة “الكونسروة محلية الصنع” تحتاج لتصبح قابلة للمضغ لتر ماء ونصف لتر زيت، نصف كيلو ليمون وكأس “طحينة” لكن ذلك غير متوفر الآن، ولا يهم بحال من الأحوال أي من الرجال التسعة الذين يحتفلون بأنهم قاموا بصد هجوم عنيف طيلة ليل أمس وحتى ساعات هذا الصباح المتأخرة.
ربطة خبز صامدة على واحد من صناديق الذخيرة منذ ثلاثة أيام لانهماك الجميع بوليمة الحرب التي استعرت أوارها عند حاميتهم الصغيرة، وكأنها هجوم الزلازل عليهم، أما الطبق الرئيسي فوجبة أرز مسلوق مع العدس متبلة بالكمون، – المنكه-  الوحيد الذي وجدوه بعد أن عثر عليه أحدهم بين أغراضه، “ظرف كمون يا شباب” قال طاهي الفريق مثمنا لقية صديقه باعتبارها ستجعل وجبتهم ألذ.
جلس الرجال التسعة لتناول وجبتهم على سفرة مرتجلة من أوراق الجرائد، وعلى غلاف واحدة منها كُتب: أنتم أملنا، بينما واحد من رفاقهم يسند ظهره على أحد الجدران مغمضا عينيه وكأنه شارد في حلم بعيد.
أصوات الرصاص المتقطع لم تمنعهم من متابعة طعامهم حيث أن أحد رفاقهم يراقب من خلال ثقب في الجدار الجبهة المقابلة، ويشير لهم بإصبعه أن لا شيء مهم تابعوا.
أنهى الرجال التسعة الوليمة التي كان لديهم ترف تناولها مجتمعين، فالطعام ومنذ عدة ليال، كان على “الطلاقية” كل بيده سلاحه، وسندويشة لفت على عجل، ربما لا شيء  من الطعام محشواً بداخلها، أما الآن فلديهم الوقت لذلك، خصوصا وأن المهاجمين أيقنوا أن لا سبيل لاختراق هذه الحامية الآن، معتقدين أن عدد الجنود المتواجدين فيها يفوق المئة جندي بذخيرته الكاملة، بينما في الحقيقة لم يكن موجودا في الحامية إلا أربعة عشر رجلا، أربعة يقفون على المحارس وتسعة رجال ينتهون من تناول وجبتهم.
بعد الزفر صار بدها سيجارة، قال أحدهم ، وبدأ الرجال يفتشون في جيوبهم عن علب تبغهم، لكن احدهم لم يجد ولو سيجارة واحدة، كانت الطريق التي توصل الإمدادات إليهم قد قطعت منذ أربعة أيام، بعد أن تمكن العديد من المسلحين من التمركز في أماكن ترصد الطريق وتستطيع قنص كل من يمرّ عليه، قبل أن يقوم سلاح الطيران بدفنهم أحياء مع قناصاتهم الغادرة.
وحده الرجل المستند إلى الجدار وهو مغمض العينين، لم يحرك ساكنا، فتوجه أحدهم نحوه واخذ من جيب سترته علبة تبغ مكسورة شيئا ما.
وزع الرجال التبغ فيما بينهم وذهب كل إلى شأنه، في المساء جلس ثلاثة رجال منهم ليلعبوا الورق في انتظار الحرب، لكنهم يحتاجون لاعبا واحدا لتكتمل اللعبة، إلا أن احد الرجال الباقين لم يتطوع لذلك، إما لنومهم الشديد بعد سهر دام أربعة ليال، وهناك من هو منشغل بالتقاط إشارة الجوال، عله يحفل بها فيكلم حبيبته، ومنهم من يحلق ذقنه ويعيد ترتيب هندامه.
لم يبق أمام الرجال الثلاثة إلا الرجل المستند إلى الجدار وهو مغمض عينيه كأنه شارد في حلم بعيد، ناداه أحدهم لكنه لم يجب، قام الثلاثة واحضروه، هيئوا له متكئا بين ثلاثة صناديق ذخيرة، ووضعوا سيجارة بين شفتيه فصارو رجلاً نائماً يدخن ويلعب الورق، وثلاثة رجال يتآمرون فيما بينهم ليكون هو المنتصر، قال له أحدهم  بلهجة غير معروف نغمة الحزن فيها من نغمة السخرية:  يا رجل حتى وأنت ميت تربح.
ملاحظة : القصة حقيقة .. لذكرى روح الشهيد صاحب الفضل في هذه الرؤى “باسل سليمان عباس”.
تمام علي بركات