ثقافة

سيف الرحبي في بيت القصيد: المشــهد العربي يمــر بمــرحلة انحطــاط ظــلامية

من شرفة منزله الرابض على حافة الوادي يطل دائماً، فألف مشهداً لقوافل وجمال لا تهدأ طوال اليوم، تعبر وتمر آتية من الشرق، مرتحلة إلى اتجاهات كانت مجهولة بالنسبة إلى الفتى ابن “سرور”، البلدة العمانية الصغيرة، لكنها، وبالرغم من ذلك، ألهمته وأسست لديه هذا الشعور بالترحّل الدائم نحو المجهول.
هو “سيف الرحبي”، الشاعر العماني الذي يعد واحداً من أبرز المبدعين العمانيين، وأكثرهم انتشاراً خارجها، وأغزرهم إنتاجاً لنصوص وكتابات تميزت بأساليب حداثية متنوعة تحمل جميعها أسئلته الوجودية التي شغلته على الدوام.
كأن الريح تحته
الرحبي الذي اعتاد السفر خارج بلده منذ بلغ الرابعة عشرة، حيث كانت القاهرة أول وجهة له بقصد الدراسة، والتي شكّلت بوابة لانطلاقته الأولى إلى العالم، إلى بلاد الشام، يؤكد أن تلك المدن التي عاش فيها تركت أثرها وعلامتها في الذاكرة، وبالرغم من إقراره أن لا تفاضل بين مدينة وأخرى بالنسبة إليه، فلكل منها طعمها، ونكهتها الخاصة، وإضافاتها الوجدانية والإبداعية التي لا ينكرها على نصوصه، إلا أنه يقول: إنه في ضوء الوضع المأساوي الذي تعيشه المنطقة العربية يعترف أن دمشق هي شاغله الأساسي، “دمشق الحزينة حالياً، المزهرة دائماً في الذاكرة العربية والمخيلة العربية”، يقول: “لا أستطيع أن أروح أي مكان، أو أعيش في أي جزيرة في آسيا أو أي مكان إلا وأذكر دمشق، وأذكر سورية والوضع الذي تعيشه”، ويكمل قائلاً: “هي إلى جانب كرمها التاريخي، وكرم أهلها الذين عشت بينهم ست سنوات تقريباً، دائماً تلاحقني بالمعنى المأساوي”، ويتساءل بغضب دفين: “متى يأتي الخلاص لهذه البلاد التي إلى جانب أنها أكرمتني وأصدقائي، فقد وجدت فيها حاضنة عاطفية ووجدانية كأني لم أغترب عن بلدي، وهي كذلك بالنسبة لمعظم العرب”؟!.
الرحبي الذي لا ينكر أن بيروت كانت تعتبر ولفترة طويلة سويسرا الشرق، لا يريد لهذا الكلام أن يقوده إلى مديح مجاني لتلك المدينة، فالأمر اختلف الآن في ظل هذه “الحالة المتناسلة من الصراعات والمجازر والضغائن والطائفية، يقول لمحاوره: “أبشع شيء الآن في المشرق هو ظهور الطائفية”، هذا لم يكن في تاريخنا إطلاقاً على هذه الصورة الدموية، وبهذه البشاعة، “إنها تدمّر وتفتت بصورة لا يحلم بها حتى الأعداء”.
صاحب “نورسة الجنون” التي كانت أول إصداراته الشعرية، ومن دمشق تحديداً، يعترف بأن هذا الخراب العربي المقلق أثّر ربما سلباً على علاقته باللغة: “حتى الكتابة أصبحت حالة عبثية، أمام مشهد الخراب الشامل والعميق الذي يجري، هذه المجازر، هذا التهجير، نحن أمام حالة غير موجودة في العالم”، ويرى أن ما يزيد الأمر كارثية أنه يجري في بلاد عرفت بغناها الحضاري وبثرواتها ومثقفيها، يقول لمضيفه إنه لطالما قرأ وأعجب بمفكر من بلاد الشام استطاع التقاط الخاصية الإبداعية لهذا الهلال الخصيب، اسمه أنطون سعادة حين قال عن هذا المشرق: “من المفترض أن يكون في مصاف الدول الأوروبية في تطوره الحضاري”.
الحوار الذي يفترض أنه حوار لقراءة أديب وشاعر، شكّل مساحة حرّة للشاعر العماني، كي يفرغ ما اعتلج في أعماقه من مشاعر غضب على ما يجري، وعلى الدول الأوروبية التي يراها إجرامية فيما يختص خارج حدودها، وبالأخص الانكليز الذين لم يتركوا يوماً أي أثر ثقافي ولو كان بسيطاً في الدول التي استعمروها على خلاف الفرنسيين، بالرغم من أن علاقة الغربي الآخر هي علاقة إبادة، ويتابع بصراحته التي كانت ميزة الحوار: “لكن لا يمكن أن ننسى مسؤولية أنظمتنا العربية، فهي الأساس، وعليها أن تحصن وتحمي أوطانها وشعوبها، ولا تلقي باللائمة على الآخر مهما بلغت إجراميته”.

تعال مشرقي
من الطبيعي أن يكون للمغرب العربي نصيب من ترحال المبدع المستمر الذي يرى أن هذا الجزء من العالم العربي يمتلك فضاء مختلفاً للثقافة العربية، فلسفياً واجتماعياً وأدبياً، يتميز بعمق لا يقل عن نظيره المشرقي، عازياً الإضافات على الصعيد الفكري والفلسفي إلى “نخب تكونت بأثر تركه الفرنسيون”، ثم يعود فيغمز من قناة المشرقيين بأن لديهم نوعاً من التعالي على المغرب العربي، وعلى الجزيرة العربية: “هناك نوع من التعالي والنظرة النمطية دون أي معنى”.

إشكالية أساسية
والرحبي الذي يسعده استمرار صدور مجلة “نزوى” الثقافية التي تعد من أبرز الإصدارات الثقافية العربية، يلقي بالمسؤولية على المؤسسة الرسمية فيما يخص انتشار أو غياب الحالة الثقافية العمانية، والمثقف العماني عن المشهد العربي، فبالرغم من وجود وسائل التواصل الحديثة التي يقتصر دورها على حالات فردية، إلا أن هذا الأمر يبقى مسؤولية المؤسسات الرسمية: “المبدع ينتج نصه والكاتب كتابه، لكن تسويق هذا النص وانتشاره هو مسؤولية المؤسسة الرسمية التي لا يمكنها مهما ادّعت أن تخلق مبدعين”، معتبراً أن المشهد العربي اليوم يمر بأسوأ مراحله: “لا يمكن أن نصف المشهد العربي الآن إلا أنه يمر بمرحلة انحطاط ظلامية”، وبالرغم من التهميش والاستهتار والاحتقار الذي مورس بحقه، إلا أن المثقف العربي بقي غائباً تماماً عن الأحداث الدموية الفظيعة التي تحدث: “الشارع سبق المثقف العربي، على الأقل على أحدهم أن يسجل كلمته حول مأساوية هذا التاريخ وانحداره”.
صاحب “الجندي الذي رأى الطائر في نومه”، والذي يعد من الشعراء القلائل الذين أسسوا لقصيدة النثر بعيداً عن القصيدة المترجمة والبنية الكلاسيكية للقصيدة العربية، يعتبر الحديث عن انحسار قصيدة التفعيلة وشرعية قصيدة النثر مسألة متخلفة، ويرى في حالة الفوضى والفلتان التي تشوب قصيدة النثر أمراً طبيعياً يمر بها أي نوع من الأنواع الأدبية، عازياً الانتشار الذي تلقاه الرواية اليوم إلى أن المؤسسات الرسمية استطاعت إخضاعها للمشهد الاستهلاكي السائد: “الرواية العظيمة لا تنتشر”، مضيفاً: “لقد تم تسليع الرواية”.

علاقات
الرحبي الذي انعكس مشهد القوافل وترحالها الدائم على كتاباته وعلى شخصيته وعلاقته مع الأشخاص والأشياء والأماكن التي يعد أبرز من كتب عنها “فأنسنها”، لكن كل شيء عابر، كل شيء منته، ولا يمتلك خاصية الثبات: “ثمة نزوع عميق وجواني للااستقرار، للترحل الحياتي وعبورها الدائم”، يكمل: “الأماكن بقدر ما تخلق من إثراء ومن تجربة روحية واطلاع، بقدر ما تخلق تمزقاً وتشظياً، سواء في النص أو السلوك”، وهذا ما يتبدى جلياً في كتابته لنص أدبي يعتبر مفتوحاً لا يستقر على صورة محددة، بمعنى أنه بين القصيدة والسرد والمقالة وأشياء أخرى متداخلة:  “يقول لي صديق، اعمل شخصيتين في هذا الكتاب يصبح رواية، قلت له يا أخي لا أريد أن أفكر “شو يصير”، المهم أن أكتب نصي بشكل تلقائي وعفوي، ينتهي إلى أي محطة، أو ميناء هو يريده”.
ويبقى صاحب “يد في آخر العالم” متميزاً عن سواه بخاصية قاموس دلالي خاص به يطرحه خلال أسئلته الوجودية وأفكاره التي تقلقه، فيفتح عقولنا على أبواب وأبواب للسؤال والتأويل، فيسرقنا من لحظاتنا الآنية إلى البعيد، ويعيدنا في لحظة أخرى إلى الراهن المعاصر، وكأن الزمن والمسافات الضوئية لا قدرة لها على الفصل بين ما أنجزه أمس أو ما سيأتي به مستقبلاً.

بشرى الحكيم