ثقافة

قصيدة النثر.. مخاضُ الولادة

نوّار شدّاد
شهد الواقعُ المُعاش منذ أواخر القرن المنصرم وحتّى يومنا هذا، تحوّلات وتبدّلات عديدة على مستوى العادات والتقاليد والفكر والنضال، فسيرورةُ المجتمع البشري وعلى مرِّ العصور ميّالةٌ إلى التجديد والتغيير، وأمام هذا الضجيج الذي يعصف بمجتمعاتنا كان لا بدَّ من فنون قوليّة جديدة، تعبّر عن هذا التغيير سيَّما وأنَّ الفنَّ لطالما كان انعكاساً للواقع في كلّ آفاقه وتجلياته. ولعلَّ المتتبع تفاصيل ذلك المشهد وتحوّلاته كافّةً يلمس تغيّراً بنيوياً هائلاً وسريعاً اخترق منظومات المفاهيم في نطاق العلوم الإنسانية كافّةً، هذا التغيّر اخترق نظم العمل والحياة العامة، فرحلت اليقينيات وباتت كثير من البديهيات بحاجة إلى إعادة نظر، إضافة إلى تهميش الكتاب وعدم الاكتراث به وغياب المنابر، وتغليب الصورة على حساب القراءة. وفي خضّم تلك التغييرات برز اتجاهٌ شعريٌّ أخذ على عاتقه ما يمكن أن يسمى “رؤية جديدة” في الشعر السوري حيث انبثقت تباشيرها مع نهايات عقد الثمانينيات من القرن المنصرم اتخذ من قصيدة النثر والنص المفتوح وسيلة للتعبير عن رؤاه الفنيَّة. وانطلاقاً من الموقف الفكري الذي يستحوذ على حياة أيِّ مفكِّر أو ناقد أو متلقٍّ، فإنَّ تلك القصيدة قد اصطدمت بحواجز وعوائق ليست بقليلة، وتعرّضت للغط وسوء فهم كبيرين تمثَّلا في الأسئلة حول ماهيَّة وجودها ومشروعيتها كمنتج فكري يحمل مشروعاً فنيَّاً، بيْد أنَّ الحراك الاجتماعي العربي لم يكن قد تهيَّأ بعد لتقبّل هذا النمط من الشعر فكيف تكون قصيدةً مبهمةً وواقعنا يعجّ بالقضايا الإنسانية الكبرى والتي لم ينقطع القول فيها!؟. فقد بدت تلك القصيدة ترفاً لُغوياً ذلك أنَّ كثيراً من الباحثين والدارسين آنذاك يعتقد أنَّ ساحة الأدب ليست منفتحة على التبدل والتغيير فضلاً عن أنَّ الحياة الثقافيَّة العربيَّة عبر سيرورتها لا تحبِّذ الجديد بل دائماً ما تضع العراقيلَ في طريقه. فكيف لمولود جديد يميل إلى الانفصال عن ذلك الواقع أن يرى النور!؟. وليس من المفارقة في شيء في أنَّ المقدَّسات الفنيَّة في النص الشعري كالجوانب الموسيقية الظاهرة (البحر- القافية…) لا يمكن التخلي عنها في أيِّ حال من الأحوال، حيث أنَّنا نجد تلك القصيدة قد اصطدمت بمشكلة الابتعاد عنها أو إلغائها بالمعنى الأصح!. إذ لم يُغفر لها  تخليها عن تلك الجوانب فبدا إثمها الفني إثماً شاسع الجرم. كلّنا يعلم أنَّ أيَّ تيار فنِّي أو أدبي يستمدُّ الكثير من تفاصيل وجوده وبقائه مما يطرح من أفكار ورؤى تكون حاملة لمشروعه، فما طرحته قصيدة النثر- بحسب رأي الكثيرين- لم يرقَ كثيراً للحركة الفكرية والثقافية وإنَّ ما قالت تلك القصيدة يحتاج إلى أرضيَّة فلسفيَّة عالية فكيف تكون شعراً صاحب رسالة والغموض يكتنف تفاصيلها!. وليس ما يدعو إلى الدهشة أن نشير إلى أنَّ كثيراً من كتّاب قصيدة النثر فضَّلوا الابتعاد عن الموضوعات الكبرى والمكرَّسة غالباً، وركَّزوا على استبطان أغوار الذات لتبرز الذاتيَّة في تلك القصيدة والانتهاء من العموميات والكليّات إلى التركيز على الحياة اليومية بكل لقطاتها ومشاهدها، وذلك ما تمثّل في قصيدة التفاصيل اليومية.. مستفيدين من شحن الكلمة العادية بطاقة شعرية ومعتمدين على قاموس الحياة اليومية العفوي والبسيط.. تقول شاعرة: أستيقظ عند الفجر… على رؤوس أصابعي… أسرق نسمة من النافذة… هدوءاً من البيت.. لمحة من الشارع الرمادي العاري.. بأشواقه.. كنهر يسبقه ماؤه.. ويهرم وحيداً بين الضفتين.. مع فنجان قهوة ساكن.. بطعم الحذر.. أبداً.. صفوة القول أن نقول: استطاعت هذه القصيدة أن تشعل فتيل معارك فكرية كثيرة وتركت أثراً إيجابيَّاً في حركة الثقافة العربية ولا مراءَ في أنَّ فعل الثقافة الغربية قد بدا واضح المعالم على مستوى نصوصها ودراساتها وذلك لا يمنعها أبداً !! بيد أنَّ الثقافة التي تستطيع استيعاب رؤية فنيَّة معيَّنة وجعلها جزءاً لا يتجزَّأ من بنيتها الفكرية لا شكَّ في أنها ثقافةٌ راسخةُ الملامح والجذور.