رسائل الكرز .. أرواح عالقة بين الحب والحرب
عودة منتظرة للقطاع الخاص إلى عالم السينما الأرحب فنياً، للمساهمة في صناعة السينما السورية التي لم يستطع القطاع العام تحويلها إلى صناعة ثقيلة فكرياً واقتصادياً، ليأتي فيلم “رسائل الكرز”، سيناريو وإخراج الفنانة “سلاف فواخرجي” في تجربتها الإخراجية الأولى، عن قصة لـ “نضال قوشحة”، كبداية لعودة القطاع الخاص للاهتمام بالإنتاج السينمائي بعد غيبوبة طويلة، تخللها بضع تجارب سينمائية شبيهة لكنها لم تترك أثراً يذكر.
افتتح “رسائل الكرز” بمشاهد بين أعوام مختلفة من الجولان السوري المحتل وفلسطين المحتلة، لتصبح الكاميرا عين المتفرج الطالعة من بحيرة قطينة الساحرة صوب ربا الجولان الطبيعية البديعة، تتقاطع مع مشاهد عنف مرّ سريعاً في الذاكرة لكنه ترك الأثر المراد تحقيقه منه، مشهد قتل الجنود الصهاينة للشاب السوري في الجولان، ومشهد هجوم سوريين عراة الصدر على قطيع من الجنود الإسرائيليين وهم يعتدون على امرأة فلسطينية عجوز يعيد تلك المرحلة بمشاعرها ذاتها، وما ارتكبه الصهاينة بحق السوريين في الجولان المحتل وفلسطين السليبة من قتل ودمار وتنكيل بالحياة، عنف وحقد يحيل ذاك الجمال الذي قدمته بعض المشاهد لغضب يعتمر في النفوس، فهذا هو العدو وتلك هي البوصلة في إسقاط غير مباشر على الآن وهنا، وهذا خيار ذكي يحسب للمخرجة التي تعرف أنها لا تستطيع أن تقدم فيلماً سينمائياً يخلو تماماً من أحداث الواقع الراهن الذي طغى على كل شيء.
انسحب مزاج “فواخرجي” وإحساسها العاطفي على أجواء الفيلم الذي بدأت قصته يوم استقلال سورية 1946، مروراً بأهم التواريخ التي انطبعت في الوجدان العربي الجمعي لتكون بمثابة جرس يرن كلما لاح تاريخ منها، 1948-1967-1973، وما تعنيه تلك التواريخ بمجر ذكرها، إلا أن قصة حب جولانية طارت فوق تلك التواريخ، لطفت بعض الوجع هنا وضغطت على الجرح هناك، فالحب الذي جمع بين “علاء” (محمود نصر) و “سما” (دانا مارديني) لم يكتب له أن يسير الدروب المعتادة التي يسلكها الحب عادة من شوق وحنين ولوعة واشتياق وغيرها من ضروب الحب المبرحة، لأن طالعه المعلق بسماء الجولان المحتل تخلخلت أساساته الوجدانية على الأرض، البيت المنتظر والجلسة الصباحية المشتهاة على شرفة الطبيعة، الاستمتاع بآهات أم كلثوم والغيم المارق في تشرين، كل ذلك صار حلماً وشرطاً من أهم الشروط التي لن يكتمل هذا الحب دونها، وهكذا مرّ الزمان وتغيرت الصور وتبدلت الأمزجة، أما المشاعر التي جمعت بين علاء وسما فتخلت عن كل الاحتمالات المعروفة لعالم العشق والعشاق، وصارت مشاعر مرتبطة بوطن وقضية وحلم ما زال مفتوحاً كجرح، فالطفل الذي ولد في يوم الاستقلال، سينمو وشجرة الكرز التي زرعها لها والده كتقليد من تقاليد المنطقة، ثم سيكبر هذا الصبي في حسرة غياب الأب “أدى دوره ناصر مرقبي” الذي ذهب ليحرر فلسطين لكنه لم يعد، تكبر شجرة الكرز وتزهر الوعود بيضاء تحت ظلالها، لكن للحروب وقعها المدوي والحاسم، ليذهب علاء الذي فقد والده في حرب تحرير فلسطين، إلى الجبهة في حرب حزيران 1967، وتتوالى بعدها الحروب والانكسارات والخيبات، يفترق الحبيبان ليلتقيا بعد أن يكون الزمن قد نال منهما، لكن شغف القلب بالحبيب الأول ما زال باقياً ما زال الجولان المحتل وفلسطين السليبة باقيين.
قصة الفيلم وحبكته الضعيفة وضعت “فواخرجي” في تجربتها الإخراجية الأولى موضع امتحان ليس بالسهل أبداً، فالفيلم السينمائي الجيد يبدأ من السيناريو الجيد، من الفكرة المبدعة ومن القصة المتقنة، القصة التي كتبها “قوشحة” لا تصلح لأن تتحول إلى سيناريو سينمائي، إن كان من جهة الشخصيات ذات الأفق الواحد في القصة، أو من جهة الطرح المرتبك لمجموعة أحداث جسيمة وثقيلة وضخمة لن يكون التعامل معها سهلاً لكل على حدة، فما بالك وهي مجتمعة، كما أن بعض الأفكار الواردة في القصة تصيب بالإحباط عن عبث المحاولة في استرداد الحقوق، فحرب تحرير فلسطين انتهت بحرب ذهاب الجولان، وقصة الحب التي تمثل الخير والنقاء والفرح، محكوم عليها بالعذابات التي لا تنتهي، وشخصياً أعتقد أن خيار الذهاب نحو تاريخ حرب تشرين المجيدة، كان خيار “فواخرجي” وإلا لكانت مضامين الفيلم منقوصة وسلبية الطرح، ما أثقل كاهل “رسائل الكرز” بمشاهد خلابة تلتقطها الكاميرا، لكنها غير موظفة درامياً، بمعنى أنها تقنياً وفنياً بديعة، مزجت بين مشهد بصري مفتوح على جمال طبيعي يخلب الألباب، وموسيقى رائقة وضعها “هايك يازجيان” تستميل النفوس وتلهيها عن الانهماك في المتابعة، لكنها جاءت ضعيفة المضمون بحوارات عاطفية مثقلة بالمشاعر الوجدانية الكثيفة، ما أفقد الحوار رشاقته وانعكس سلباً على أداء بعض الفنانين، ومنهم أداء النجم العالمي “غسان مسعود” الذي بدا حضوره في الفيلم حضوراً فاتراً نوعاً ما، كصورة فوتوغرافية أكثر منه شخصية حية من لحم ودم.
قاعة مسرح الأوبرا التي غصت مقاعدها بالحضور والتي تعكس رغبة الجمهور السوري بمتابعة فيلم سوري واضح ومفهوم وفيه رسائل وطنية لا تحتمل اللبس أو التأويل، والحركة اللائبة للحضور وهمهماتهم في بهو دار الأسد للثقافة والفنون بينما أضواء فلاشات الكاميرات تلمع من هنا وهناك، أعادت ولو لوقت قليل بهجة وفرحة كانت قد غابت عن الوجوه والملامح، ومخرجة رسائل الكرز التي وقفت تستقبل جمهورها بابتسامة نيرة على سجادة حمراء في مدخل الدار، أحالت أمسية دمشقية خريفية كئيبة إلى مهرجان ألوان كان دم الكرز فيه هو اللون الأجمل صوتاً وعذوبة.
إخراج: سلاف فواخرجي- تأليف: نضال قوشحة- التعاون الفني: المخرج وائل رمضان- المخرج المنفذ: محمد الأحمد- مدير التصوير والإضاءة: وائل عز الدين
مدير الإنتاج: بسام خدام- مهندس الديكور: زياد قات- التأليف الموسيقي: طاهر مامللي- الملابس: ظلال الجابي-الماكياج: حنان دوبا- مشرف الإضاءة: جمال مطر
المخرج المساعد: زين الزين- سكريبت: رانيا مصطفى- تصوير فوتوغراف: محمد طمير- مدرب الرقص: علاء كريميد.
تمام علي بركات