ثقافة

“أناتولي إيفروس”: قراءة موسعة في “استمرار الرواية المسرحية”

غالباً ما تندرج المؤلفات التي تتناول في موضوعاتها الرئيسة المسرح ببنيته وأصوله ضمن فئة الكتب التشريحية، وهذه الكتب على اختلاف مناحيها وتوجهاتها، ستبدو بعد لأيٍ أنها محطات متفرقة وأحياناً غير متنوعة للحديث عن المسرحة والشرط المسرحي ضمن أُطرٍ منسوخة عن بعض الأسماء التي صنعت نقلة في واقع المسرح وصارت مذهباً مسرحياً قائماً بذاته،  كستانسلافسكي وبرتولد بريخت،إلّا أن هناك بعض التجارب التي تنفلت من عقال الرتابة والتكرار لتأخذ وإن حافظت على الثيمة الأساسية- طابعاً خاصاً، سيكون الحنين هو عرابها الأساسي، الحنين بشكله المرضي، (وهل نعرف نوعاً من الحنين ليس مرضياً؟) فالحنين هو ما دفع المخرج الروسي الشهير “أناتولي إيفروس”إلى تأليف كتابه الثالث “استمرار الرواية المسرحية”-صادر عن وزارة الثقافة-ترجمة (ضيف الله مراد) و”استمرار” هي الكلمة المضافة لعنوان الكتاب الأصلي الذي ألّفه “بول جاكوف” المعنون بـ”الرواية المسرحية”.
يمضي “إيفروس” بمؤلفه إلى كواليس مسرح موسكو الفني، المسرح الأعرق والأشهر في العالم، كونه قدّم لأهم الأسماء المسرحية كتشيخوف مثلاً، وعلى أيدي عددٍ من المخرجين العِظام، منهم على سبيل المثال لا الحصر نيمروفيتش والمعلم ستانسلافسكي؛ حيث يقع الكتاب ضمن أربعة عشراً فصلاً مختلفاً تتباين في فحواها الفروقات الواضحة في التوثيق المسرحي، إلّا أن جميعها تقدم خلاصة تجربة إيفروس الطويلة في عالم المسرح، ليبدأ الكتاب بآخر تجاربه المسرحية التي عمل عليها في أمريكا، والتي تركت فيه انطباعات مختلفة ومتنوعة، كان لها أثرها في جعله يرى أن “بلاد العم سام”هي بلاد خلقت للمسرح، إلّا أنه يقف عند بعض الملاحظات السريعة، ليرى أن جميع مسارح العالم لها رائحةٌ واحدة، وأن أُلفة المسرح في أي مكان في العالم تخفف من غرابة المدن الجديدة، وهو مأخوذ بالبراغماتية الأمريكية التي تنسحب على كل ضروب الحياة، ففي المسرح يتقن الممثل الأمريكي دوره بعناية، وهو ممثلٌ يهتم بالتفاصيل، وبكل شاردةٍ وواردة ويبذخ في تأسيس عمله ليعود ويسترخي، أما الصفة الأهم له، فهي التزامه المطلق بالمزامير المسرحية، لكن الكاتب يخلص إلى أن الممثل الأمريكي أكثر تقنية من الممثل الروسي، بيد أنه أفقر روحياً.
إن اختلاف البلدان لا يعني بالضرورة اختلاف شروط العمل الفني، حيث يمكن أن يكون لكل شرط معنى مختلف، فالفن مثلاً عند الأمريكيين يتشكل من الانفعال وعلم الحساب، والجمال لديهم هو امتزاج القديم بالجديد، وهذه أحكام جائرة في بعض مناحيها، لكن تحمل أوجهاً من الحقيقة، أقله في الجانب الذي صدّره الإنسان الأمريكي عن طبيعة علاقاته وحياته للعالم.

الجهد المبذول ليس هو العمل
تلك هي المقولة التي يدور حولها الفصل الثاني للكتاب الذي يتناول تشيخوف، وهو برأيي الجزء الأهم منه، كونه يضع أعمال الكاتب الروسي كمعيار لما يجب أن يكون عليه النص المسرحي، إذ يتناول مؤلف “استمرار الرواية المسرحية” أعمال تشيخوف من منظور مختلف” عند العمل على نص مسرحي لتشيخوف يجب عدم التفكير بتعاسة الشخصيات، بل يجب التفكير بأنهم رائعون، ويجب علينا أن نحبهم ونحزن لأجلهم” كما أنه يعتبر أن لكل عمل مسرحي هويته الخاصة، لكن من الصعب أن تتقبل عملاً لكَ يقدمه شخصٌ آخر، طالما أنكَ تعتبره ملكاً شخصياً، فالممثل من وجهة نظر إيفروس يجب أن يكون شاعراً، بعد ذلك يأتي الأسلوب والمنهج، ويرى أنه من المهم جداً أن نتخلى عن التصورات التي يقدمها النص المسرحي، والأجدى أن يرتّب المخرج الحوار في خياله أولاً وبشكلٍ دقيق، فغالباً لا يمنح النص المسرحي مراميه من القراءة الأولى، كما ويجب تقديم العرض المسرحي وفق آلية إبراز نقاطه الأهم، والتركيز على تخليصها من ورطة الكلاسيك واللغة المدرسية، والعمل على إعطائها حيوية الواقع الحالي، ليخاطب النص العرض بمعاصرة دون الرزوح تحت طوطم التكرار.
في فصل “أوقات عصيبة” يقدم لنا المخرج إيفروس زبدة خبرته التي اكتسبها في العمل الطويل، فبرأيه من الصعب على الإنسان أن يكون حكيماً في الشغل المسرحي، فالإنسان من طبيعته التأرجح، وهو غالباً ما يبحث عن النجاح، وليس عن الحقيقة، وقلةٌ هم الذين وصلوا إلى هذا الفهم، ومنهم “دانشينكو”، حيث يورد المؤلف عن هذا الأخير بعض الحكايات الممتعة؛ منها أنه كان يترك معطفه معلّقاً عندما يغادر المسرح، فيمضي الممثلون في العمل بشكل جدي وكأن دانشينكو لم يخرج.
يقدم إيفروس أيضاً الحقائق التي اعتبرها دانشينكو مفتاح أي عملٍ مسرحي ناجح، وهي الحقيقة النفسية والمسرحية والجمالية، وينتهي إلى تقديم وصايا في طريقة التعامل مع الممثلين؛ كي لا تضيع البوصلة من يد المخرج، وتُفتقد الهيبة الضرورية له؛ ومنها لا يجوز الدخول في علاقة زمالة مع الممثلين، ولا أن تأخذهم من يدهم؛ كن رب عملٍ صارم، وعليكَ التحرر منهم روحياً، ولاسيما بعد أن تحوّل فن التمثيل إلى مجرد مهنة وعمل، دون إبداع وتذوق عميق لآلياته؛ حيث أصبح ممثل المسرح الذي يرتبط بأعمال أخرى يخترع حججاً تافهة لعدم حضور البروفات، في الوقت الذي كان مستحيلاً له أن يغيب عن البروفات عندما كان طالباً، وغريبٌ هو التناقض بين من يعشقون المسرح ولا يقفون على خشبته، وبين دلال وغنج العاملين فيه”إن كنتَ في الشارع وهطل مطرٌ غزير، فهذا سيىء، وإن لم تكن في الشارع وهطل مطرٌ غزيرٌ؛ فهذا سيىءٌ أيضاً، لأنكَ لن تعرف أبداً ماذا يعني أن تركض بخطى مسرعةٍ متدثراً بمعطفٍ أثقله البلل”. يرى إيفروس أن مهنة الإخراج تعتمد على الشرح والإقناع، والثرثرة المنسجمة، والسيطرة على المزاج النفسي، وباعتبار ستانسلافسكي من أهم معلمي المخرج إيفروس، رغم أنه لم يلتقه، فهو يسهب في الحديث عن صفاته السيكولوجية، ويكاد يتبنى كل ما يصدر عنه، حيث أدرك ستانسلافسكي عندما كان يقوم بإخراج “الشقيقات الثلاث” أن الشخصيات التشيخوفية لا تحمل حزنها فقط، بل تريد أن تكون واقعية تعيش وتتفاعل مع الحياة، كما كان ستانسلافسكي في شبابه ينجز العرض المسرحي بسرعة، ثم أصبح يتمهل عند تقدمه في العمر، حتى إنه في آخر أيامه كان يشرف على البروفات بواسطة جهاز الهاتف، ويرى أن الكتب التي تركها مؤسس مسرح الفن بموسكو مدهشة في بساطتها على نحو “حياتي في الفن،إعداد الممثل”، حيث يقول إيفروس نقلاً عن ستانسلافسكي: “فن المسرح ليس إلهاماً وشعوذة، بل هو فنٌ واعٍ، وفيه مفاهيم كالتحليل الجديّ، وله طرقه ودراساته كطريقة التحليل بالأفعال، وطريقة الإتيود، إذ يورد إيفروس مقولة ستانسلافسكي الشهيرة في التعلم: “التعلم لا يعني الاستمرار بما تتعلمه، بل يعني أن تتشرب ما تعلمتَه بكل كيانك”، حيث ما زالت روح ستانسلافسكي العظيم تحلّق فوق مسرح موسكو الفني.
يقْدِم إيفروس أناتولي على عرض المشاكل التي يعاني منها العمل المسرحي ككل، فأي تأثير خارجي لا علاقة له بالعمل قد يؤثر على الشغل على الخشبة برمته، متذكراً الحادثة الشهيرة التي جرت مع المخرج “نيمروفيتش” عندما أوقف هذا عرض “بستان الكرز” بسبب رائحة شواءٍ كانت قد وصلت إلى قاعة المسرح، كما أن المؤلف يعتبر المسرح مؤسسة مزدوجة، فالمسؤولية تشعركَ بذلك، ولكي لا تتجذر في المكان الخطأ عليكَ أن تعرف جيداً ما الذي تريده، وما طبيعة الفن الذي تدافع عنه، وما هو الشيء الذي تحتاجه بالفعل.
يشكو  أناتولي بُعد الممثلين العباقرة عن العروض المسرحية التي تعتمد على وحدة الفريق، فهم يجربون أنفسهم في الإخراج والسينما، ليقفَ إيفروس بعد ذلك حزيناً على أطلال مسرح موسكو الفني وأمجاده الغابرة، حيث ظل يقدم خيرة أعماله في مدةٍ زادت عن خمسين عاماً، وباهتمامٍ متزايد وإقبالٍ كبير، وهو يعتبر أن العرض المسرحي لا ينهض على الحِكم المأثورة لأنه لعبٌ في جوهره، ولا يجب أن تضيع الحكمة في اللعب، ويقر أن الفن سحر، وأن الارتباك الطبيعي هو الذي يحرّض الأفكار على الابتكار.
لاينسى إيفروس أن يستشهد بالمخرج الإيطالي فردريكو فيليني باعتباره أحد عباقرة الفن، حيث قال صاحب “الحياة حلوة”: “الممثلون يشبهون بحارة كولومبس، فهم يطالبون دائماً بالعودة إلى بيوتهم” ويرى أيضاً أن للمسرح سطوته فهو عالمٌ غريبٌ جداً ويثير الغضب، كونه يُبنى على تشكيلاتٍ معقدة ويعمل بطريقةٍ ما على إفساد وعي العاملين فيه.

من أجل أن يعيش المسرح..
المسرح كأي شيء آخر في الحياة يجب التعامل معه وفق شروط زمنية وواقعية معاشة، وأحياناً بحساسية عالية، فلا خلاص لهذا الفن الأصيل دون تطوير النص، لجعله يقوم بطرح المشاكل الحياتية بشكلٍ حاد، ويجب عليه التخلص من شعار “كل عمل مسرحي يجب أن يكون أفضل من سابقه” والحرص على عدم تمزيق المسرح إلى أشلاء، والقبض على الأسلوبية التي تُعنى بجمع التناقضات، ومن ثم الانطلاق بتشكيل الدراما والتراجيديا، وبجرأة عالية يقدم لنا إيفروس بعض أهم أسرار هذه المهنة الشاقة، ومنها.. ليس المهم عدد الصفحات المكتوبة، بل المهم الفضاء المسرحي الكامن في الجمل الحوارية، والبحث عن أسلوبية اللعب المدهش، وطرح مشاكل تعبيرية مدهشة، كما فعل العبقري شكسبير الذي يعتبره إيفروس شعبياً، وله نظرة شديدة الواقعية ترى الأشياء والعالم على حقيقتهما، منظماً، صريحاً، جلفاً، بسيطاً، إنه طبيعي ويقدّم حكمته بعفوية. كما ينصح أناتولي إيفروس بعدم تضخيم المونولوج بالسعي الشخصي، وبالفانتازيا الكاذبة، وينصح بعدم التشدق، وتوظيف الممثل ليعمل ما عليه فقط، حيث يورد الكاتب بعض القواعد أهمها: أن أهمية العمر في الفن تزول، والمسرح الجيد هو المسرح الحيّ، وليس المسرح المكرر، وعدم اتباع أية قاعدة صارمة في العرض المسرحي، بل التفكير بكل مسرحية بطريقة خاصة.
يقدم  إيفروس الكثير مما اكتسبه من تجاربه الطويلة في المسرح، ومنها ما يجب أن تكون عليه خصال المخرج الناجح، فهو مرح ذلك المرح القائم على اللعب، لا على التنكيت والابتذال، وهو يعرف –أي هذا المخرج- متى يكون جاداً وحازماً، وأن يشعر بأن العمل المسرحي هو عمل موسيقي بالدرجة الأولى، والصفة الأهم برأيه أن يكون المخرج شاعراً أيضاً له لغته الخاصة.
“استمرار  الرواية المسرحية” مؤلف توثيقي لحياة مخرج فذ عمل في الفن المسرحي بروحه أولاً، واستطاع أن ينقل ما هو محسوس ومادي إلى ما هو مأثور ومطلق؛بأسلوب روائي شيّق حيناً، وملول حيناً آخر، لكنه واضح ودون مواربات، أو زيادات.. كالحياة.

تمام علي بركات