ثقافة

الشاعر الراحل محمد إبراهيم حمدان “وللصَّمت حديثٌ آخر”

ليست المسافة بذلك البُعد بين لسان اللغة وصمت الشاعر. إذ لا بدَّ من كبش فداء لرصّ صفوف الكلمة في كلِّ زمان ومكان، وكأن ثمة امتداداً لحديث الشاعر الراحل “محمد إبراهيم حمدان” ذا طابع كوني، إنسانيٍّ، يصعب الفكاك منه.
ويبدو جليًّا الشاعر في مجموعته الشعرية “وللصمت حديثٌ آخر” تحدث قبل أن يصمت صمته الآخِر بصوت الحق الذي في داخله: صوت فريد، لا ينخرط في ببغائية الجوقة. وإن كان لهذا “الصمت” وجهُه الجمالي أيضًا، وهو الوجه الذي يضن بالجوهر النفيس على غير أهله. لقد كان هذا الصمت السوريّ يشبَّه بأسرار العشق، بما تحتوي هذه من نشوة في البوح بها ومن حسرة أمام الضعف عن الكتمان أو مخاطر البوح، وإنْ كان  الصمت يمهد لمراوغة القارئ الذي توقع ما توقع إن هذا الصمت أشبه ما يكون بالغرفة السوداء التي تخفي عناقيد الضياء وقد ﺨﺼّص اﻟﺸّﻌر اﻟﻤﻌﺎﺼر ﻟﻟﺼّـﻤت مكانة عجيبة وأولاه المنزلة الرفيعة، فالصمت ﺤﺎﻟﺔ ﺘُﻌﺎش وﻴﻌﺴر اﻟﺤدﻴث ﺒﺸﺄﻨﻬﺎ وبوح الشاعر الراحل محمد حمدان جاء تأكيداً على أن  “للصمت  حديث آخر” ويعد صمته جزءاً لا ينفصل عن قصيده  بما يندرج ﻓﻲ اﻟﺤرﮐﺔ اﻹﻴﻘﺎﻋﻴّﺔ للحياة/ﻟﻟﻘﺼﻴدة وﻴﮐون داﺨﻟﻬﺎ أﻴﻀﺎﹰ ﺤرﮐﺔَ ﺘﻨﻔّس وﺤرﮐﺔَ اﻨﺘظـﺎر وﺘوﻗّف، وﻋﻼﻤﺔَ أﻤل أو اﻨﮐﺴﺎر وﺘﺄﺜّر وﺘﺴﺎؤل وﺘﻔﮐّر أو ﺘﺄﻤّـل.
لقد  نحا اﻟﺸّﺎﻋر ﻓﻲ ﺤدﻴﺜﻪ ﺒﺨﺼوص اﻟﺼّﻤت ﻤﻨحى 1*”أوفيد” ودخل بصمت  عوالم  الحب الجميلة، وبإيحاءات الصمت ازداد وضوحاً والتقت نظرته إلى الصمت بنظرة شاعر آخر هو  مالارميه حيث يعتبر: “البياض حجّة البناء والصمتَ هو البذخ الوحيد بعد القوافي”، وفي هذا قدر غير قليل من السمو والتحليق وتجاوز الأبعاد بوساطة الكلمة والحب، مما يمنح الشاعر ولادة الصمت اللاإرادي, عندما ينظر إلى ذاته وما يختلجها من انفعالات حسّية، يبحث عن مخرج لهذه الانفعالات, فهو ينقل القلق والشجن من ذاته إلى الآخر”، لأنه المدرك أن القصيدة تتولّد من صمت العلامة وبها يعيش إلى آخر الدهر، وهي لغةُ الجسد، الجسدِ داخل اللغة،   والتي رأى داخلها ما كان حمزاتوف يراه في الصمت حكمةً أو كان يرى فيه فراراً من خوف لا يجرؤ على البوح به، وبذلك يجسد قول تِ- سِ- أليوت: (الشاعر الكبير هو الذي يذكّرك  بسابقيه).
قد يكون اختار مفردات الصمت كي تكون رسالته إلى أبناء أمته للخلاص مما وقعوا فيه من مآسٍ وآلام، وأنتج صوراً شعرية متماسكة الأنساق لتكون وظيفة وطنية نضالية بعيدة عن الثرثرة الفارغة والمفارقات البهلوانية.
“للصمت حديث آخر”: يساهم  هذا العنوان في توضيح الدلالات, و يمنحنا سفرا في أخاديد ودهاليز الواقع المرّ, كما انه الأداة التي بها يتحقق الربط العلاقاتي بين المعنى ودواله..مما يستدعي هذا العنوان انتباه المتلقي الذي ينفتح على ربّة الإلهام، ولكن لمن هذا الصمت/الهوى/الحديث الآخر؟ ربّما امتزجت هذه الدلالات الموحية جميعها في الوطن قائلاً:
“وطني تسابيحُ السماء تنزَّلتْ /صلواتِ قلبٍ في هواكَ تهجّدا
ثالوثُكَ القدسيُّ مهدُ كنيسةٍ/أضحتْ لتوحيدِ العروبةِ مسجدا
ما كلُّ داعٍ يُستجابُ..فإن دعا/أسدُ العروبةِ ردَّدَ الكونُ الصدى”
لقد أدرك المتلقي أن اللغز/الآخر/الصمت/ هو كلمة واحدة تتكون من خمسة أحرف، سواء أكانت تلك الكلمة هي الوطنَ سورية أم المحبوبة “ميماس” اختبأت في رحيق زهرة الميماس أم كلتيهما معاً. وحسب العتبة المصاحبة لعنوان قصيدة “وللصَّمت حديثٌ آخر” التي حملت المجموعة عنوانها نلاحظ أنها أسهمت تداعيات وإيقاعات بحر الكامل بهدوئها وفخامتها في إضفاء جو من القداسة وهالة من الوقار على مضمون السرّ الذي يحمل الوطن بكل ما يوحي به من معاني الإجلال والتقديس.         وعلى هذه القراءة يكون العنوان مخترقًا للوعي “كنبيّ الشِّعر”، مطبقًا كظلٍّ فوق محراب الجمال، متمرّداً في وجهها وهي تَتَمعنُ في غلافه الحزين؛ صارخا في وجه حبيبته: “من أنتِ”؟ اصمتي كي تسمعين الشعر! فالشِّعر سيطهرك ويحررك .. ص-107/من أنتِ؟! لقد تَعِبَ السؤالُ ورابني/بوحٌ تراءى عاصفاً ثمَّ اعتذرْ.
وفي ضوء نظرية التأثر والتأثير، يكتشف القارئ أن العنوان يعكس خلفيات عتبات فنية وتقنية لأنه يعتمد على الإزاحة والمفارقة التي تثير الدهشة وتهيئ القارئ لانفتاح مخيلته واندماج وعيه مع تيارات الديوان النصيّة.
ويعمد الشاعر طيلة صفحات الديوان إلى جعل المتلقي يسبح في تداعيات من المعاني العاشقة الشفيفة للوصول إلى المغزى الكامن وراء “شراع تائه” أو”همسات عاصفة”، ويقول  الشاعر في قصيدته التي تحمل عنوان المجموعة و”للصمت حديثٌ آخر” ص-22:
“ماذا أقولُ..وأنت كلُّ قضيَّتي؟!/والناسُ فيك مَحَورٌ وشتاتُ
بيني وبينكِ ما يُقال.. وبيننا/ مالا يُقالُ..وللهوى آياتُ”
إن قصائد الديوان تدور – في مجملها – حول الثيمة الرئيسية التي يحملها الديوان، ولو استطاع المتلقي أن يَسِمَ قصائده بعنوان شامل ما تردد لحظة في وسمها بـ (ذهب الصمت)، وما ذلك إلا لأن المجموع الشعري المتعدد القصائد ينتظمه خيط رفيع واحد مجدول بضفائر الهوى، والحب والجمال، فعبَّر الشاعرُ عن مفارقة أن يكون المرءُ في حال مثل حاله من شدة القهر ثم يكتم حزنه ويرى نفسه متجهاً إلى البوح أيضاً:
“منازلُ العشق جمرٌ لا رمادَ لهُ/من أمس أمسي..ويومي في الهوى..وغدي
فقد تعبتُ من الصبر الجميل على/وهم..وأخشى على روحي من الأوَدِ”.
إنه عزف مُنفرد سوريّ، أو مزمور عاشق من التكوين؛ ذلك أن دلالة المناجاة  تخترق الديوان منذ القصيدة الأولى “عذري إليكَ” القصائد الأخرى.
“عذري إليكَ وعذري منك  يا وطني/أنّي أحبّكَ في سرّي وفي علني”.
تبدو مغامرة الصمت التي دخل “حمدان” في اختبار عناصرها الجمالية تحقق للعمل الشعري البنية الكلية المتطورة عبر مسارات حركة حيّة متكاملة توّحد الشكل والمضمون والمكان والزمان باللغة الأم.
“أمّي..وأختزلُ الحروفَ بدايةً/ونهايةً..وتوحُّدا..وتفرُّقا”.
ويشد المتلقي بأكثر من صورة ولون متخيل إلى رحاب التأويل -تاريخاً وموطناً وفكراً، إنه يفتح الطريق إلى من ضلَّ عن قصد السبيلِ إلى تعرف مشارب الشاعر ومصادره وآباره التي امتاح منها مادته الأصلية وفنه الشعري.ومما قاله في حب دمشق:
“هنا دمشقُ..هنا التاريخُ والقدرُ/هنا الكلامُ..هنا الأنغامُ والوترُ
لا فرقَ فالقيمُ السمحاءُ واحدةٌ/على هُداها (تلاقى اللهُ والبشرُ)..”.
وتحمله امتدادات بحر الكامل “على ضفاف الجمر”ص- 124- 125 – 130  وعبر تراسل الحواس تتنقل الوظائف الحسية وفق المفارقة والإدهاش اللغوي لنراه يلتقي مع شعراء في نظرتهم إلى الموت،لكن هذه النظرة تمتزج بلون من الانتماء المعتز بالحياة قائلاً:
“وللموت طعمٌ واحدٌ..ولموتنا/ما شئت إنْ حُمَّ الضلال وأزبدا
ما شئتَ كُنْ..فلكلِّ وعدٍ موعدٌ/ما ضيَّع الشعبُ الأبيُّ الموعدا”.
الإهداء:
وكما هو الإهداءُ مرصّعٌ بتجلّيات الوطن،الهوى الجمال: “إلى قيثارة تبوح أسرار النَّغم إلى زهرة تعشق الألوان في عرس الضياء. إلى نسمة سكرى بعطر الورد وبوح الياسمين..لك أيّها الجمال العاشق من الأزل إلى الأبد.
هو الفهرس المصلوب على جدار الصمت، والهمّ الوطني يشكل مكوناً رئيساً من مكونات رؤية الشاعر، بحيث يندر أن يجد المتلقي قصيدة من قصائد الديوان تخلو من هذا الهمّ، لقد كان انشغاله بالهمّ الوطني واضحاً جلياً، فالهم السوري شغل الشاعر وملك عليه أقطار نفسه، فجاءت دائرته أوسع مساحة، وأعلى نبرة من درجة الانشغال بغيره من القضايا والهموم.
يؤكد الشاعر بصمته على قصور العقل  البشري عن الوصول إلى حقيقة الجمال  الإنساني بقوله:
“ليس الجمالُ بضاعةً يا حلوتي/أو خمرةً من أي كرْمٍ تُعْتَصَرُ
هو ثورةُ الإحساس في أعماقنا /وجنونُ جمرٍ في أمانينا اختمرْ”.
وكأنّ كل ما يعشقه الشاعر ويصبو للقائه يتجسد في (نبيّ الشعر) الذي تتموضع في وجوده كلّ موجودات الشاعر التي حفرت في وهاد روحه أطلالها ودمنها وكأني به  قد أجاب عن سؤالٍ كبير يتردد في داخل كلّ منا عن غياب فن الصمت كي نسمع ما يلقيه الآخر من جواهر القلب.
لقد لمسنا في حديث الصمت والشعر عند الشاعر الراحل أن القيمة العليا للإنسان هو أن يترقَّى بكلمته صعوداً حتى يتلاشى في صمت الكلام ويفنى فيه. إن ثمة قيمةً للصمت على صعيد المعرفة أو الحق وعلى صعيد الأخلاق والجمال: فكلما اقتربنا من مصدر الكلم الطيب اقتربنا من الأشرف، وكلما ابتعدنا اقتربنا من الأخس.
وصفوة القول: و”للصَّمت حديثٌ آخر” تسابيحٌ مقدّسة في مسابح الأتقياء تحقق في النهاية شعرية الشعر..كي ترتفع الآن شمس الكلمة في نهاية طريق العارفين. ويبقى الشعراء حرّاس الكلام ويبقى الشاعر الراحل محمد حمدان سيف الشعر الذي لا يُكسره الغياب وسيعيش جدلية كبيرة بين الصمت وبين البوح.
و”للصَّمت حديثٌ آخر” صادر عن منشورات اتحاد الكتاب العرب-سورية- يقع في 140صفحة من الحجم المتوسط ويضم 34 قصيدة.
< 1-  ترجمات أوفيد ” فن الهوى “:د.ثروت عكاشة
أحلام غانم