ثقافة

“جمال الغيطاني” الكبار يرحلون تباعاً

جمال الغيطاني يرحل أخيرا بعد عمر من العطاء والانجاز الأدبي المتميز وان كان كل رحيل يدعونا إلى أن نقف على أطلال عمارته الروائية، لنعاود تفحص تراكيب لبناتها واصطفاف حجارتها ونعجب مجدداً بالتقاطاته المبكرة، وإشاراتها الثاقبة عن الكثير من القضايا الشائكة والمكابدات التي كانت ومازالت تؤرق إنسان المنطقة مفكراً كان أم  أديباً أو عاملاً بسيطاً في مصر خاصة والعالم العربي بشكل أعم، فروايته الأشهر ” الزيني بركات” التي أنجزها عام 1970وجرى تجسيدها عبر مسلسل تلفزيوني أبرع في أدائه كل من نبيل الحلفاوي وأحمد بدير عام 1995، مسترجعاً تاريخ ماضي المماليك  ليطالعنا بشخصيتي شيخ البصاصين  الشهاب الأعظم زكريا بن راضي وشيخ الحسبة الزيني بركات، كناية عن الزمن الذي يقبض الخوف والرعب على حياة الناس، وتصبح الرقابة على العقل والتفكير وشراء الذمم ومحاصصة الناس على أرزاقهم ومصادرة أموالهم، ورغم كون هذا الموضوع قد عولج مرارا وتكراراً في الكثير من الأعمال الأدبية، غير أن لأسلوب الغيطاني السلس والسهل البصمة المميزة في الوصف الدقيق والعميق للعوالم الداخلية لشخوصه وتجليات سلوكهم الفردي، ورسم صورة دقيقة لقاع المجتمع المصري من خلال استلهام تراثه الثقافي والشعبي في صوغ المحاور الرئيسة في عمله الإبداعي، فالزيني بركات يستخدم الفتاوى الدينية والشعارات الغيبية بواجهة من الورع والتقوى في السيطرة على العقول، وتوجيه الرأي العام بما يتناسب مع مصالحه واستخدام الدسائس والمؤامرات بين فئة المتنفذين وأولي الأمر للإيقاع بعضهم ببعض من خلال المفارقة بين التسمية الدلالية للقب “الزيني” الذي أطلق كصفة مباركة يحمل في السلوك الممارس المخفي الصورة النقيضة وهذه الفئة تتصدر الهيمنة على روح العباد وقادرة على التلون وإعادة إنتاج ذاتها في لبوس جديد من خلال تبوئه المنصب في العهدين المملوكي والعثماني.
كما كان لاشتغال الغيطاني  بالصحافة مورداً غزيراً  للمفردات والتفاصيل التي تغني وتثري نتاجه الذي قارب على أكثر من أربعين كتاباً على مدار حياته الأدبية والفكرية، كما برع في فن القصة القصيرة منها مجموعته الجميلة “الحصار من ثلاث جهات” التي تحمل إحداها العنوان نفسه إذ تبرز فيها روحه الساخرة الفكاهية من خلال رسم شخصية فيها المفارقة بين واقع الإنسان البسيط وأحلام اليقظة التي تضعه في قمة الهرم الاجتماعي ويأخذ في توزيعه هباته فمن يرضى عنه من خلال علاقته به ينوي أن يضعه في أعلى المناصب وسيمكنهم من بلوغ الأماني ومن يزعجه يضعه في خانة الأعداء المتربصين به هو كأهم شخصية متنفذة، والذين سيكون عقابهم عسيراً، كما سيدون التاريخ أقواله وأفعاله وذكريات المناطق التي مر فيها كأحد أهم المنجزات ولا يغفل حصة الأطفال السعيدين الذين يمرون من دربه.
هي السخرية المرة التي تنطق بها صفحاته من واقع مر لا فكاك منه سوى فضاء الحلم أو الوهم، وعلى حجم العتمة فيه يكون الشطط في التخيل والإيهام في حياة ظلية متصورة. جمال الغيطاني الذي كان فضح الواقع والظلم والظلام هاجسه الكبير في مجمل أعماله
دعد ديب