الصفـحــات الـثـقـافيـة.. الرافـعـة الـفكريــة لصحفـنـا
عندما بدأت الأحزاب السياسية في كل من مصر وسورية تأخذ حجمها السياسي والجماهيري في كلا البلدين بوقت متقارب، قامت هذه الأحزاب السياسية بإصدار جرائد أسبوعية بداية ثم يومية تاليا، نشرت فيها وجهات نظرها السياسية حيال ما يجري من متغيرات سياسية داخلية وخارجية، وروجت فيها أيضا من خلال كُتابها المنتسبون إليها لأهدافها التي سعت لتحقيقها في برنامجها الانتخابي الذي خاطبت به شارعها بشكل خاص وشوارع الأحزاب الأخرى عموما، أي أن هذا المنبر الورقي هو بالعموم للتأثير في الرأي العام وفي السياسات التي تنتهجها الأحزاب السياسية في ذاك البلد أو تلك الجمهورية والتفاعل معها ضمن خطاب معلن وصريح.
ارتأت هذه الصحف أن تضيف لصفحاتها صفحات أخرى تُناسب شرائح مختلفة من المجتمع، معتبرة أن استمالة الشارع إليها تتأثر بقوة صحفها أو ضعفها، فأضافت الصفحة الاقتصادية والصفحة الاجتماعية وصفحة التسلية وصفحة الثقافة وغيرها من الصفحات التي من خلال جذبها لمن يهتم بما تقدمه يتسنى لها أن تجذب عدداً اكبر من المؤيدين في أي معركة انتخابية، إلا أن بعض أهم هذه الصحف أدركت سريعا مدى أهمية الصفحة الثقافية في كل من الشارع السوري والمصري بشكل خاص والعربي عموما “عندما بدأت الصحافة في سورية ومصر ولبنان، كانت العديد من البلدان العربية التي يا للمفارقة تتحكم بالمزاج الثقافي والسياسي الآن من خلال إعلامها المستورد بأموال النفط، لم تكن سمعت بما يعنيه المقال الثقافي إلا قلة من المهتمين” حيث القارئ لم يكن على علاقة جيدة بالمقال السياسي ولا يعتبره يخصه بالقدر الذي يعنيه مقال ل “مارون عبود” مثلا أو “محمد الماغوط” أو غيرهم من المثقفين الكبار الذين خاضوا في الشأن الثقافي في الصحف التي تعاملت معهم وأعطوا للصفحات الثقافية من خلال ما كان يتم طرحه من مقالات ثقافية وسجالات فكرية نقدية تهم على حد سواء كل من النخب والناس الذين لديهم اهتمامات أخرى، كالسجال الذي دار مثلا على صفحات إحدى الجرائد الصادرة في بيروت بين الأديب مارون عبود والشاعر نزار قباني، والذي صار حينها على كل لسان بين قارئ مهتم وقارئ عابر.
تداول الناس الجرائد اليومية وأحبوا المماحكات الفكرية والوجدانية والشعرية التي جرت على صفحاتها الثقافية بأقلام العديد من الأدباء والكتاب والمفكرين، لتمر فترة ذهبية في تاريخ الصحافة الثقافية العربية، تنافس فيها الكُتاب على إقناع القراء وتثقيفهم وتهذيب منطقهم أحيانا بكل براعة وإبداع، بالمهارة وقوة الفكر والتحليل العميق.
لكن هذه الحال لم تدم،حيث ترنحت العديد من الصفحات الثقافية وراح أداءها يتفاوت في القيمة الفكرية والثقافية للمقالات التي تداولت عليها، لتصبح الصفحة الثقافية التي أسست لعلاقة خلاقة وخاصة بين القارئ والنص المبدع،هي الصفحة الأقل شأنا بين الصفحات الأخرى وهذا لأمر محزن، أقله لمن عرف قيمة الصفحة الثقافية وواكب الحياة الثقافية الحية التي كانت تضج بها الأروقة السورية بسبب مقال ثقافي فكري بطرح ما، يحرض على الذهاب للبحث والاستقصاء والاهتمام والانشغال بما جاء فيه.
لكن ما الذي تغير حتى تبدلت حال هذه الصفحة وتردى وضعها؟ كان كبار الكتاب السوريين والعرب يتنافسون على الفوز بمقال ينشروه في صفحاتنا الثقافية، حيث سيفخر أي مثقف عربي مهما بلغ شأنه أن يستحسن “الماغوط” مقال له ويقوم بنشره في الصفحة الثقافية التي كان يشرف عليها آنذاك،وسوف ينال صاحب المقال المنشور حظوته من المعرفة والشهرة والثقة من القراء.
وضع الملامة على القارئ إنما هو هروب للأمام، وحتى إن كان القارئ قد تراخى في التفاعل مع هذه الصفحة وما تطرحه فالمسؤولية لا تقع عليه، وما يتوجب علينا هو إعادة الثقة بين منابرنا الثقافية وبين القراء، وتغير القناعة الراسخة في باله عن كون ما نقدمه ليس “حكي جرايد” كما بات يظن.
تراجع حال الصفحات الثقافية ليس أمرا راهنا بل هو حالة تراكمية تعود لسنوات ليست بالقريبة، وبالتالي نستطيع فهم المشاكل التي نعاني منها وفق ضوء هذا المعطى والتعامل معه وفق آليات ومسارات تعلي من شأن الفكرة النيرة والنقد الفعال والحقيقي للحيثيات التي تُعنى بها الصحافة الثقافية في مناحي الحياة، كالفن بأنواعه والأدب بتعدد أشكاله وحتى في المناحي السياسية التي تتداخل بالحالة الثقافية بإسقاطات مباشرة حينا وأخرى متوارية.
الشأن الثقافي هو أحد أهم أوجه الصراع الذي نخوضه كسوريين في وجه أعداء الحياة، وهذا يزيد من الأعباء على كواهل المشتغلين بالصفحة الثقافية على اعتبار أنهم مسؤولون أيضا عن تقديم حالة معرفية و ثقافية وفكرية راقية وحقيقية، يكون لها أثرها الفعال في الشارع وبين بسطاء الناس قبل النخب، بعيدا عن أوهام المجاملات والعلاقات الشخصية التي تقف كعائق رئيسي في وجه هذه المهمة، أيضا وزارة الثقافة مطالبة بمتابعتها الحثيثة لما يُطرح في هذه الصفحات وتقديم الدعم الحقيقي لها “معنويا وماديا” فلا يجوز أن تكون الصفحات الثقافية للجرائد المحلية في واد ووزارة الثقافة بواد آخر!
تمام علي بركات