ثقافة

“آنـا كنيشـنكو” تـقـاريـر إخبـاريـة منـكهـة بـ “هـال” الـشـعر

“على أنقاض البيوت والمباني المهجورة في هذه المناطق تتوالى الصواعق، ولا فرق بين أصوات الرعد ودوي القذائف أو الانفجارات التي أصبحت مألوفة في قرى الأشباح هذه، إنها “مورك” تبعد نحو ثلاثين كيلو مترا إلى الشمال من حماه وهنا يبدو أن الطبيعة بحد ذاتها لا تقوى على حبس الدموع حين تنظر إلى ما تبقى من هذه البلدة المستقرة سابقا”.
القطعة الأدبية السابقة هي مقدمة ريبورتاج تلفزيوني من الريبورتاجات المميزة للمتألقة “آنا كنيشينكو” مراسلة قناة روسيا اليوم، وإذا تأملنا هذه الكلمات التي افتتحت بها “كنيشينكو” تقريرها الإخباري المصور، سنجد فيها وقوفا على الإطلال، حيث تظهر مباني وبيوت مهجورة في الريبورتاج المصور، أيضا أصوات مدوية في قرى أشباح ثم أمطار، فالطبيعة نفسها حزينة وتبكي من الحرب التي تدور في البلاد، مراسلة روسيا اليوم بلغت من إتقانها لمهنتها وللغة العربية أنها استعملت عادة شعرية عربية أصيلة في تدوينها الأدبي لتقريرها الإخباري، وهي افتتاح القصيدة بالوقوف على الأطلال حيث بدا الريبورتاج الذي يرد فيه “أنقاض بيوت ومباني مهجورة” قريبا مما قاله امرؤ القيس: “قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل” كما يرد فيه أيضا وصف المكان بأنه قرى أشباح آلت إليها “مورك” الوصف الذي يبدو مشابها لشعر جرير: “لمنِ الديارُ كأنها لمْ تحللِ” أما الحديث عن “الطبيعة بحد ذاتها لا تقوى على حبس الدموع” مترافقا ذلك مع لقطة لانهمار الأمطار في تلك الأطلال كأن “علي بن جبلة” يقول: من طول ما يبكي الغمام على جنباتها ويقهقه الرعد.
تدرك “المراسلة الشقراء” كما صار لقبها في الشارع السوري، أن خمس سنوات من الحرب كفيلة بجعل أي مشاهد يصد عن متابعة التقارير الإخبارية، أو أن جذبه من متابعة قنوات إخبارية أخرى اعتاد متابعتها خلال هذه المدة الطويلة في زمن الحروب لن يكون بالأمر اليسير، لذا ذهبت “كنيشيكو” لاستخدام القدرة الهائلة للإيحاء الشعري المتجذر في موضوعات يألفها المشاهد العربي ويتفاعل معها لا شعوريا لقدرتها الشعرية على تحريك أحاسيسه، وهذا ما عملت على مراعاته بشكل دقيق “الإعلامية الروسية التي ظهرت على الناس والكوفية الفلسطينية تتوشح عنقها” في معظم ريبورتاجاتها الإخبارية التي كانت قد بثتها قناة “روسيا اليوم” سواء كان ذلك بذهابها لانتقاء مفردات مقدمة تقريرها بعناية بالغة، مراعية فيها مزاج المتفرج الحاضر الآن بمراعاتها لأبسط قواعد الريبورتاج الإخباري المقنع، ومزاجه الغائب في اللاوعي والذي هو المحرك الحقيقي لما يشده الآن، أو بأسلوبها البديع في مزج الجمل الشعرية بالجمل الرياضية التقريرية وسبكها بدراية وخبرة قلت وندرت بين نظيراتها في الأعلام العربي، منتجة بذلك نصا أدبيا بارعا، لا يستطيع من يستمع إليه إلا الإصغاء الشديد له.
تقول آنا: “أول سؤال يوجهه الناس إليّ هو “لماذا اخترت اللغة العربية؟ ربما يبدو هذا الأمر غريبا حتى بالنسبة لي، إذ ما من أحد في عائلتي يعرف العربية أو لديه ذكريات من البلدان العربية ولكني لا أستطيع أن أفسر ما لا يفسر، أنا أحب الثقافة الشرقية والمحبون لا يسألون لماذا” لم اسمع تبريرا مقنعا للحب لا من شاعر ولا من روائي ولا من قاص، بارع وحقيقي كالتبرير الذي قالته “آنا” في عشقها الشرقي الساحر للغة: المحبون لا يسألون لماذا.
تمام علي بركات