ثقافة

آنا كنيشينكو: فتح جديد في الريبورتاجات التلفزيونية

كنت قد تناولتُ في مادة سابقة المراسلة الروسية “آنا كنيشينكو”، ومسألة البراعة على مستوى الخطاب، وهو ما لا نجده عند مذيعات وصحفيات القنوات الناطقة بالعربية، الأميرة الروسية إذاً أتت لتنافس أقرانها في حقل ليس باليسير، حقل صعب هو أقرب إلى قلعة اسمها اللغة العربية، لا تفتح أبوابها إلا لعشّاق التعبير والنحو والبيان، لكنّ هناك جانباً ثانياً تتسم به موادها هو الجانب البصري، فالريبورتاج الخبري فنّ سمعي– بصري، يقوم نجاحه على ما نسمعه وما نراه، وعلى العلاقة بينهما، لذلك فإن مقالاً واحداً عن الجانبين غير كاف، فكان السابق عن مهارتها فيما تقوله، وهذه المادة الآن عن مهارتها فيما تعرضه وتريه للجمهور، سواء كانوا من الحلفاء فتشدّ من عزيمتهم، أو من الأعداء فتُحبطهم أكثر، وتزيد من خيبتهم، ويمكن افتراض أن جودة تقاريرها هي السبب الإعلامي الأوّل في فعالية الحملة الجوية الروسية التي جاءت لتساعد الجيش العربي السوري في جهوده الحثيثة للسنة الخامسة على التوالي بالقضاء على الإرهاب، على جبهات لا تُحصى، فالمعركة في عصر الميديا باتت تُحسم بشكل كبير، وربّما أولاً، على الشاشة.
من داخل المطار تتجنّب آنا أن تأخذ تصريحاً لأي طيار روسي، فقط تعرضهم أثناء عملهم، يسيرون بعد أن أتوا من طلعة، أو متوجّهين إلى الطائرات، بملابس تزيد المعالجة التقنية في مرحلة ما بعد التصوير من ألوانها الزاهية، كأنّهم في استعراض جوي احتفالي، أو كما لو أنهم يقومون بطلعات بهلوانية للاستمتاع بالطيران، فهم إذاً لا يحسبون حساب الخصوم، ولا يكترثون لأمرهم، كل ذلك في لقطات بعيدة تظهرهم يسيرون بملابسهم الكاملة مثل رجال آليين لا يتعبون كما يتعب البشر، ولربّما صادفوا واحداً من فنيي الطائرات في طريقهم، فيقفوا ويبادلوه التحية ويردّ تحيّتهم، وجهة نظر الكاميرا هنا تُحاكي شخصاً وقف ليختلس النظر ويتفرّج عليهم، وهم غير مكترثين له.
تستفيد أيضاً تلك الريبورتاجات من جمالية المكان الذي تقع فيه القاعدة، واحدة من لقطات الطائرات التي تقلع كانت الكاميرا الثابتة، تأخذها من بين الزهور والأعشاب التي تشتهر بها منطقة “حميميم”، وعندما تستغرق العين بتأمل جمال الأعشاب والورود القريبة من العدسة، تظهر فجأة في عمق الصورة طائرة تُقلع فتتبعها الكاميرا، وتحقق بهذا عنصر المفاجأة، وتزيد من شعور المتلقي أنّه شاهد الإقلاع مصادفة بعد أن كان يتأمل الأعشاب، الأمثلة كثيرة عن تلك اللقطات التي تستفيد من جماليات الفيلم الوثائقي، والذي هو الأصل الفنّي– الاتصالي للريبورتاج التلفزيوني، ومن تلك الأمثلة أخذ لقطات عديدة لطائرتين تُقلعان معاً، أو لطائرتين تهبطان معاً، وذلك باستخدام عدسات (تيلي) التي تقرّب وتضخّم، فتظهر الطائرتان بحالة انقضاض وهجوم على المشاهد إذا كان من المعادين للحملة الجوية، وبعدسات عادية، ولكن من موضع تصويري آخر، لتظهر الطائرتان من وجهة نظر مراقب حيادي ينتبه ثم يعجبه ما يشاهد، ذلك إذا كان من الجمهور المؤيّد للحملة الجويّة على الإرهاب، وبذلك يخاطب الريبورتاج هذا الجمهور.
استخدام العدسة العريضة كان موفّقاً عند إظهار الطائرة وهي واقفة، وذلك يجعلها تمتد من سطح الشاشة إلى عمقها، انسيابيّة، مقدمتها في متناول اليد، بينما يظهر أحد الفنيين الذين يقومون بالتذخير، مع التركيز على ملابس الفنيين المدنية– شورت قصير وقبعة رأس– تشبه ما يرتديه عادة لاعبو التنس، أو البيسبول، بهدف مخاطبة الجمهور الغربي، وإبعاد إيحاءات الجيش، والقوّة الضاربة، فتساهم الصورة في دحض إشاعات استهداف المدنيين.
لكن، متى يظهر الجانب الحربي– العسكري في الريبورتاج؟.. إنّه واضح في لقطات استعراض ذخائر الطائرات، الصواريخ الموجهة والقنابل، والإسهاب في مديحها، وتعداد مواصفاتها، حرب إعلامية احترافية تنجح في ابتكارها المراسلة الموهوبة، فالصواريخ لا تخطئ أهدافها، والقنابل جاهزة، خلال ذلك كله قد يظهر طيّار أو فنّي خلفها في عمق الصورة، عندها يكون منهمكاً في عمله لا يهدأ، وهذه واحدة من الرسائل التي ينجح الريبورتاج بإيصالها، المراسلة تقف ممسكة بميكروفون، بينما الطائرات تقلع من فوقها، وعن جانبها، لا تهدأ، وواحدة من عمليات هبوط طائرتين معاً، ومرورهما بجانبها، جعلت الشال العربي الذي ترتديه يهتز بفعل الهواء الناجم عن مرور الطائرتين بجانبها، في توحيد بينها وبين الفعل الذي يظهر على الشاشة من هبوط، وآثاره عليها من تحرّك الشال.
الاستغراق والتأكيد على مديح السلاح ربّما استعارته المراسلة من إلمامها بالثقافة العربيّة، وولعها بآدابها، وربّما تكون قرأت مثلاً شعر النابغة: (لا عيب فيهم غير أن سيوفهم، فيها فلول من قراع الكتائب)، فموضوعة الريبورتاج تستند إلى هذا العنصر بقوّة، عنصر مديح السلاح لإخافة الخصم، يقول المتنبي: (تدري القناة إذا اهتزّت براحته، أن الشقي بها خيلٌ وأبطال)، فالاستفادة من الآداب العربية لا تظهر فقط في المنطوق الكلامي، بل أيضاً في تأسيس مضمون الصورة.
واحد من تلك المضامين كان الحديث عن كيفيّة هبوط الطائرة، فمع ذكر أن ثمّة مظلّة تفتحها الطائرة للتخفيف من سرعتها بعد أن تلامس عجلاتها المدرج، نعرض الكاميرا للمظلة البرتقالية الحمراء وهي تنفتح، ثم تفلتها الطائرة، وتبقى المظلة للحظة معلقة بالهواء خلفها، هنا الكاميرا لا تتبع الطائرة، كما كانت، بل تتوقف مع المظلة التي تهبط ببطء وتلامس الأرض، بعد ذلك كاميرا محمولة باليد تمرّ على المظلّة التي يقوم فنّي الصيانة بطيّها تحضيراً لطلعة جديدة، فيعيش المتفرج مشاعر المشاركة بالتجهيز والتحضير، وهنا ومع اللون الدافئ للمظلة، يصل الريبورتاج إلى أقصى درجات التأثير النفسي السيكولوجي، ويجد الجمهور المعادي نفسه مستغرقاً في جماليّات الصورة، ثم ينتبه لنفسه فجأة وقد شعر بالإعجاب بسلاح عدوّه.
واحد من التقارير لا يفوته الحديث عن الطعام والوجبات، وعن المطبخ الميداني المرافق، وهذا يدعى في علم النفس الإعلامي، التركيز على الجانب الإنساني للجنود، إن لهم حياتهم العادية، في ساعات الطعام والاستراحة، وهم إن كانوا يعتنون هذه العناية بالطعام، فكيف إذاً يفعلون فيما يتعلّق بالحرب نفسها؟.. فكل من يعتني بالفروع والتفاصيل، لابدّ أنه يتقن الأمور الرئيسية.
جودة وحرفيّة وجمالية تلك الريبورتاجات ربّما تفسّر حالة الشلل الإعلاميّة في الفضائيّات التلفزيونيّة المعادية، بدءاً بالسي إن إن، والبي بي سي، وفرانس 24، وانتهاء بالجزيرة والعربية.. لقد ظهر الاضطراب واضحاً في التعامل الإعلامي مع العمليّات الجويّة الروسيّة، وذلك بسبب الإبهار الإعلامي المُتقن لهذه الريبورتاجات، وعجز تلك القنوات عن صناعة مواد إعلامية تلفزيونية تواجهها  أو تقف بوجهها، بلسان حال يقول: الحملة الجويّة التي لديها مراسلة كهذه لا تنكسر، يميناً لقد أحسنتِ يا (آنا كنيشينكو).

تمام علي بركات