ثقافة

“فقط إنسان” في دار الأوبرا … صورة عن إنسانية الجندي العربي السوري

سأعود يا وطني إليك أكيدا
لأرى بحضنك كل عمري عيدا
بهذه القصيدة الغنائية للشاعر نظمي عبد العزيز قدمت المخرجة والممثلة ريم عبد العزيز فيلمها الروائي القصير الأول “فقط إنسان”في دار الأوبرا، سيناريو كوثر معراوي، إخراج ريم عبد العزيز وإنتاج المؤسسة العامة للسينما. ينطلق الفيلم من مفهوم الحب في زمن الحرب، يحاكي الأزمة التي نعيشها بأسلوب مباشر لكن بطريقة مختلفة عما عُرض سابقاً، كونه يتناول إنسانية البطل –الجندي -الذي يجتمع مع رفاقه في المحرس –الحاجز- ليحمي الناس من القناصين، ويمنع السيارات الحاملة أكفان الموت من تنفيذ مهمتها، فجاء الفيلم مغرقاً بالرمزية والإيحاءات المكثفة فيختزل في إحدى وعشرين دقيقة كل ما عشناه وما نعيشه، فكل زاوية من زواياه تومئ بحدث يشعل فتيل الذاكرة اليومية لدينا، يرمز الفيلم بمعناه العام إلى سورية التي تفقد كل يوم شبابها وهي تواجه الإرهاب، وقد بنت كوثر معراوي سيناريو الفيلم على حالة وصفية بحتة، ليأتي على شكل توصيفي للحالة كما في فيلمها السابق “ضجيج الذاكرة” فجاء فيلم “فقط إنسان” بمواضع أقرب إلى الفيلم الصامت، وبلغة واقعية، فخطاب الشخوص بسيط يعكس صورة عن خطابنا اليومي بعيداً عن التنظير والتعقيد، وقد تمكّنت كاميرا عبد العزيز من تحويل السيناريو الوصفي إلى مشاهد بصرية تختزل الواقع مستفيدة من خبرتها بإخراج الفيديو كليب الذي يختزل حالة درامية بثلاث دقائق، فوظّفت المؤثرات الفنية لتوصيف الحدث وخاصة الإضاءة الليلية على ضوء الشموع، والموسيقا التصويرية الحزينة والرقيقة التي قدمها إياد الريماوي مبتعداً عن وقع الموسيقا الصاخبة والحادة التي يستخدمها الموسيقيون عادة لترجمة الأحداث الفجائعية.
الأمر اللافت أن الفيلم مضى بمنحى رومانسي يذكرنا بمشاهد السينما الكلاسيكية، وتقصدت المخرجة اختيار أجواء أنيقة تنم عن رفاهية بسيطة تشبه داخل المواطن السوري الذي ينشد الحب والسلام.ورغم بساطة الفكرة إلا أنها عميقة جداً بأبعادها السياسية والاجتماعية والنفسية.

قصة حبّ فجائعية
يبدأ المشهد الأول بأجواء مثيرة من الحدث الهام إثر هجوم المسلحين على المحطة الجنوبية وقطع الكهرباء عن دمشق، لنرى العائلة الصغيرة المؤلفة من الأب (علي القاسم) والأم (دينا خانكان) وابنتهما الشابة (إيناس زريق) يتحدثون على ضوء الشموع في الوقت الذي تشتد فيه أصوات الاشتباكات وإطلاق الرصاص، ليقرع الباب الجندي الذي يلتزم مع رفاقه بحماية الناس من الحاجز المتوضع تحت البناء، لتبدأ العلاقة الإنسانية بين الجندي والعائلة من خلال إبريق المتة المشروب الشائع على مساحة كبيرة من جغرافية سورية، والمرتبط بالمسامرة بين الأصدقاء أو أفراد العائلة، لتتصاعد الأحداث فتنشأ قصة حب صامتة بين الفتاة والجندي (إسماعيل مداح) بأجواء حالمة شفافة مثل الستائر التي تعكس الإضاءة الخافتة ظل الحبيبة ليراها الجندي من مكانه وهو يحمل البندقية، إلى الشرفة التي تهمس من إطلالتها برسائل حبّ خفيّة إلى حلمها الصامت به وهي تجلس على الكرسي الهزاز، ليردد البطل في أحد المشاهد وقت مرور الفتاة “بحبك سورية”، فتمرر المخرجة رسالة الفيلم حينما تقول له الفتاة:”تأخرتُ عن شغلي” والتي تؤكد على قوة المواطن السوري وتحديه الإرهاب بممارسة حياته اليومية بكل شجاعة، فتلتقط الكاميرا صورة لساحة الأمويين التي تعرضت للكثير من القذائف، وتشير مفترقات الطرق وحركة السيارات إلى استمرار الحياة اليومية بكل مفاصلها رغم القذائف التي تحصد الكثيرين، يتكرر هذا المشهد عدة مرات ليلحق بمشاهد مغرقة بالرمزية فدخان المياه المتصاعد من إبريق المتة لايشير فقط إلى تأجج مشاعر الحب في صدر الجندي، وإنما يشير إلى الغليان الذي يعيشه الجيش العربي السوري وهو يرد الإرهاب.

التقاطع مع إنسانية الفدائي
المحور الأساسي بدا واضحاً من خلال التركيز على إنسانية الجندي العربي السوري فهو يعيش إنسانيته، يحب ويتسامر مع أصدقائه ويمزح ويضحك، وهو يحمل البندقية، صور تذكرنا بإنسانية الفدائي في روايات عدنان عمامة.نتوقف عند الحدث الفاصل بالفيلم والذي يمهد للنهاية حينما تستيقظ الفتاة وهي بحالة ذعر شديد من أصوات إطلاق الرصاص لتهرع إلى الشرفة وتطمئن على حبيبها لتجده مع المجموعة والضابط يثني عليهم لإبطال محاولة القناص ومتابعته.
في القسم الأخير من الفيلم تتساءل الفتاة عن اختفاء حبيبها المفاجئ الذي لم تعرف اسمه فيخبرها والدها بأنه تمّ تبديل الجنود على الحواجز، وربما انتقل الجندي القريب منهم إلى الحارة المجاورة، ليأتي المشهد الأخير الموجع حينما يستوقفها الجندي الجديد (مؤيد خراط)يطلب هويتها فتقول له:”أنا من سكان البناية” وبنظرة خاطفة على الجدار الذي طالما كانت ترى عليه صور الجنود الشهداء أثناء مرورها تفجع هذه المرة برؤية صورة حبيبها الذي استشهد، لتقرأ اسمه لأول مرة “آدم إسماعيل” وهي ممسكة بهديته الصغيرة “البيل”، لينتهي الفيلم عن قصة إنسانية الجندي العربي السوري واستشهاده.
ملده شويكاني