ثقافة

وطن في مرآة امرأة أفقها الثالث مزيج بين الأصالة والواقعية والأمل . . الكاتبة فاطمة صالح: أوثِّقِ الذاكرة.. وأحاولُ وصل الفروع بالجذور

“الأنثى الطفلة، المتمردة والحزينة تارة، الحرة، الواثقة بمبادئها تارة أخرى، حزينة بغربتها، قصيّة بأحلامها، دافئة بحبها، وحنونة إلى أبعد من البحار، محبة إلى أقصى أعماق الكون والحياة، رقيقة كنسمة، شفافة كالحقيقة، شغوفة كعاشقة، طفلة بريئة لا تشيخ أبداً حتى في أبعد من الثمانين بدهور..”، هكذا تعرّف عن نفسها، أو لأقل: هكذا تريد لكل أنثى أن تكون، لأنها مؤمنة بأن المرأة عماد هذا الوطن، ولاّدة للأبطال، ولكثرة عشقها لهذه الأرض، فهي محكومة بذاكرتها العتيقة، لا تريد الانعتاق منها، ولها أسبابها، إذ تقول: “ربما هوَ عدمُ الرضى عنِ الواقع، ومن ذلك، ضبابية الرؤية المُستقبلية.. تدفعني للتمسّكِ بالجذور، كي لا تنقطعَ السلسلة.. أحاولُ أن أعيدَ ترتيبَ الزمن، لكنني أبني عليهِ بقوّةٍ واندفاع، دونَ الانجرارِ القطيعيّ اللاهِثِ وراءَ سرابِ (الحضارة)”.
مذ تفتحت بصيرة قلبها، انشغلت بهموم الأمة، فكانت قصيدتها الأولى عن “القدس”، ومجموعتها الشعرية الأولى: “زهرة فوق الرماد”، ولأنها مشغولة بهموم أهلها كتبت عنهم، استحضرت حياتهم بكل دهشة الماضي وبكارة الريف، فكان الريف جبّ الحكاية التي لا ترتوي منها، حيث كتبت رواياتها: “صلاة لغيومك القادمة- مجنونة الخصيبة- نبض الجذور”، في دعوة منها للتمسك بالأصالة، ونقاوة هذا الريف الذي ما بخلَ بعشقه للوطن إلى اليوم.
إنها الكاتبة فاطمة صالح صالح المسربلة بالحب والشغف والطفولة.. الممتلئة بالانتماء حدّ الالتصاق بأرض “قريتها الساحلية المريقب”، والعمل فيها من زرع وقطاف واقعاً، إلى النبش في الماضي، وإيقاظ شخصياته كتابة، لتمسك بالحاضر، فاتحة نافذتها على المستقبل، والتي كان لـ “البعث” هذا الحوار الممتع في الذاكرة والكتابة والوطن والمرأة:
<  ذاكرة الطفولة.. الغربة، والعمل خارج سورية.. كل هذا الماضي أين هو اليوم؟ وماذا بقي منه؟.
<< ذكريات الطفولة، هي القاعدة التي أستند عليها في تكوين ذاتي، وهي المَنهَلُ الثرّ الذي لا ينضب، أغرفُ منهُ لأسقي بساتين روحي، لتثمرَ إبداعاً يتماهى مع الواقع، وينشر أشرعتهُ باتجاه المُستقبلِ المنشود.. لم تبرحْ هذه الذكرياتُ ذاتي، ألوذُ بها في حياتي الشخصية، كما أوثّقها –بكلِّ أمانة– في رواياتي وأشعاري، طفولة كانت تجمعُ بين جمال الطبيعةِ البِكْر، وشقاء المَعيشة، والعمل الدؤوب من قِبَل جميعِ أفرادِ الأسرةِ لتأمين لقمةِ العيش الكريمة، وتعليمِ الأبناءِ والبنات في المدارس، كنا نستيقظُ باكراً، لنساعِدَ الكبارَ بالعملِ في الحقول، قبل أن نذهبَ إلى مدارسنا، وعند عودتنا، كثيراً ما كنا نكملُ هذهِ الأعمالَ الشاقّةَ معهم، قبلَ أن يخلو لنا الجوّ لبعضِ اللعبِ، ثمّ التفرّغ للدراسة، وأداءِ الوظائفِ المَدرسية، دونَ كثيرِ تذمّر.. كانتِ الأعمالُ الجَماعية، ومُساعَدَةُ الناس لبعضهم في كلّ شؤونهم، بشكلٍ عفويّ تكامُليّ، من أهَمّ العاداتِ السائدة في طفولتي، إذا أنهَتْ عائلة (بيت أبو محمد) مثلاً، زرعَ شتلاتِ التبغِ التي اقتلعتها قبلَ الفجرِ من (المَشتلة) قربَ البيت، في حقلِها، وأرسلتْ بعضَ أفرادِها لإحضارِ المزيدِ، لن يقفَ مَن بقيَ في الحقل بانتظارها دونَ عمل، إنما يريحُ ظهرَهُ لبعضِ الدقائقِ، ويتجه إلى حقلِ جيرانهِ، ليساعدهم، إلى أن تأتيهِ “السّحاحيرُ المليئةُ”، فيعودَ إلى حقلهِ، ويتابع العمل.. وهكذا.. إذا أنهَتْ عائلتنا أو جيراننا خبزَهم قبلَ أن يعجنوا ويخبزوا ليوم أو يومَين إضافيين –لانشغالِهم– يستعيرون بعضَ الأرغفةِ من عند الجيران، ويردّونها عندما يخبزون، وإن كانَ الجيرانُ غائبين عن بيتهم، لا ضَيرَ في أن تدخلَ الجارةُ إلى بيتِ جيرانهم الذي لا يُقفَلُ ليلاً أو نهاراً، ترفعُ (المْكَبّة) المصنوعة من عيدان الريحان (الآس)، وتأخذ ما تريدُ من أرغفة، وتحسبُ حسابَ أن تُبقي للجيرانِ ما يكفيهم، إلى أن تعيدها.. وهكذا.. أنا أستفيضُ في توثيقِ هذهِ الذاكرة في رواياتي، علّنا نحافظُ على خصوصيةِ مجتمعنا، ولا نذوبُ فيما يُدعى (عَولَمة) التي ما هي إلاّ أحدَث أشكال الاستعمار، وسَلب هُويات الشعوب، ومحو ذاكرتهم، أيّ، قطع جذورهم، ليصبحوا ضائعين، فاقِديّ الهُوية، فيستسلموا مُرغَمين للذوبان في وحول ما يُرسَمُ لهم من قِبَلِ الغزاة.
أمّا الغربة، فقد قضيتُ مع زوجي سنتينِ في (المَغرِب)، حيثُ حصَلَ على (إعارة) كمُدَرّس لمادّةِ التاريخ، في روايتي القادمة التي ما زالتْ قيدَ التشكّل، أتحدّثُ عن تلكَ المرحلةِ المهمّة من حياتي.. والتي أضافتْ لي المزيدَ من المَعارِف، والصداقات، والوعي بما هوَ أبعَد من حدودِ وطني.. الغربةُ، زادَت من التعلّقِ بالوطن، كما زادت روحي ثراء وخصوبة، وفتحتْ نوافذ الروح على عوالمَ أوسع.

عالم الأدب
< تقولين: أول قصيدة كتبتها عقبَ نكسة حزيران عام 1967 قبل أن أكمل الرابعة عشرة من عمري، لكنني لم أنشر كتاباتي حتى آذار عام 2001، حيث نُشِرتْ أول قصيدة لي في جريدة “الأسبوع الأدبي” بعنوان “شرقيّة.. أنا”، لماذا انتظرتِ ثلاثة عقود حتى أخذت قرار النشر؟.
<< وعيتُ على نفسي وأنا أقرأ وأكتب “القصيدة” التي أذكرُ أنني كتبتُها عام 1967، كانت عن القدس السليبة، لكنها لم تكنْ ناضجة فنياً، إنما تدلّ على مَوهِبة تفجّرَتْ من خلالِ التأثّرِ البالغِ لما حَلّ بالوطنِ والأمة في ذلك الوقت.. أمّا لماذا لم أنشر إلاّ بعد ثلاثةِ عقود، فلذلكَ أسباب كثيرة، أهَمّها أنني لم أكنْ أدركُ قيمَةَ ما أكتب، سوى عندما تواصَلتُ مع البرنامجِ الإذاعيّ الأسبوعيّ (عالَمُ الأدب) في أوائلِ التسعينيات من القرنِ العشرين، والذي شكّلَ رافِعَة كبيرة لي على المُستوى الشخصيّ، والأدبيّ، تابَعتُ حلقاتهِ، كمَوعِد مقدّس ألتقي فيهِ معَ عالَميَ الأحَب، عالم الأدب، مُستفيدة من كلّ كلمة تقالُ فيه، سواء كانت موجّهة لي، أم لباقي الأصدقاء والصديقات الذين يراسِلونه، ومن باقي فقراتِه.. كنتُ أنزعِجُ لقِصَرِ الوقتِ المُخصّصِ لهذا البرنامجِ، وأترقّبُ الحلقة القادمةَ بكلّ شوق ولَهفة.. بدأتُ مُراسلتهُ عن طريقِ البريد، وطِرتُ منَ الفرحِ عندما سمعتُ الإجابةَ عن رسالتي الأولى التي تضمّنت مقطعَين شِعريّين، ومقطوعة نثرية، فوجئتُ بإعجابِ مُعِدّ ومُقَدّم البرنامج (الشاعر خالد أبو خالد) بما أرسلتُ له، وتقييمِهِ وتشجيعهِ اللامحدود.. كانَ لهذا البرنامج، ولقامةِ الأستاذ خالد الأدبية والإنسانية، تأثير بالِغ عليّ من الناحيةِ الشخصيةِ، والأدبية.. حتى أرسلَ لي رسالة مع أحدِ أصدقاءِ البرنامج من منطقتنا، وأوصاهُ أن يقولَ لي إنّ بإمكاني من الآن فصاعِداً أن أنشرَ في الصحف.. سألتُ الأستاذ (بدر إبراهيم أحمد): كيفَ السبيلُ إلى ذلك؟! فأجابَني بأنّ لكلِّ صحيفة عنواناً، وصندوقَ بريد، ورقم هاتف خاصّاً، وبإمكاني التواصُل مع الصحف بهذا الشكل الذي تواصَلَ هوَ معها بهِ ككاتبِ قصّة قصيرة، سبقني بالتواصُلِ مع (عالَمِ الأدب)، ومع الأستاذ خالد بشكل مباشَر.. فسارَعتُ لإرسالِ (شرقيّة.. أنا) إلى جريدة (الأسبوع الأدبي) التي كنتُ أتابعُها، واتصَلتُ بالشاعر (عبد القادر الحصني) رئيس التحرير، فأجابَني بأنها أعجَبتهُ، وأنهُ سينشرها قريباً.. كان ذلكَ في بدايةِ عام 2001.. وابتدأ المشوارُ الشاقُّ والمُمتِعُ والمتواصِل.

المرأة.. ووضع النقاط على الحروف!
< ‏  تقولين على لسان بطلتك زينب: ‏(نحن مكسر عصا) للجميع، الكل يستسهل إهانتنا أو تحقيرنا، والتقليل من شأننا، وإرهاقنا نفسياً وجسدياً لأنه لا يخشى رد فعلنا”، أمازالت المرأة مكسر عصا؟ ومن هي هذه المرأة التي رسمتها في روايتك: “صلاة لغيومك القادمة”؟ وكيف للمرأة أن تكون كالملامح التي رسمتها والمجتمع مكبل بالقيود؟!.
<< للأسفِ الشديد، مازالتْ أغلبُ النساءِ كذلك، ليسَ في مجتمعنا فقط، رغمَ انخراطِها في كلِّ مجالاتِ العمل، ورغمَ ادّعاءِ العكس.. هذا رأيي، وهذهِ ملاحظاتي التي يمكنني توثيقها إن أرَدت، وتجدينَ بعضَ النماذجِ عن واقعِ تلكَ المرأةِ الذي لا ينفصِلُ عن واقعِ الرجل، في كلِّ رواياتي.. (مُنتهى) مثلاً، في: (صلاة.. لغيومِكِ القادمة)، و(زينب) إلى حَدٍّ ما، رغمَ قوةِ شخصيتها، وثقتها بنفسِها، وتمرّدِها.. وكذلكَ (حبيبة) في روايتي الثانية: (مَجنونةُ الخصيبة).. وأعمَلُ اليوم على بعضِ النماذجِ في روايتي الخامسة التي مازالتْ تتشكّل، ليسَ للتشهير، بقدرِ ما هوَ للتصحيح، لوضعِ النقاطِ على الحروف، لأكونَ صادقة مع قارئي، كما أنا صادقة مع نفسي.. وأحياناً أقترحُ بعضَ الحلول.. لا أريدُ أن أتعامى عن مشكلات مجتمعي، لأنّ ذلكَ سيكَدِّسُ المشكلات، ويزيدُ الضغطَ والتأزّم.. وأنا أريدُ الخيرَ لمُجتمعي، للمرأةِ والرجل.. ولجميعِ مكوّناته.. أرسمُ ملامِحَ شخصيّةِ (مَحجوبة) بطلة روايتي القادمة، تلكَ المُستلَبة التي ما أن تحاولُ تجاوُزَ مأزقٍ، حتى تقعَ في آخر.. وغيرها من النماذج التي أربطها بمُحيطِها المأزوم.
أما المرأة التي وصفتها في روايتي، بكلِّ شفافية وصدق، هذهِ المرأةُ تشبهني إلى حَدٍّ كبير.. وقد تشبهُ الكثيرَ من النساءِ في وطني وبيئتي، لكنّ القليلات يتمكّنَ من معرفةِ ذواتهنّ، ويتحَسّسنَ وجودهنّ وقيمةَ ومسؤوليةَ هذا الوجود، وأنا أحاولُ أن أكونَ ذاتي، رغمَ كَوابحِ المُجتمع، بالصفاتِ نفسِها التي رسمتُها لبطلة روايتي (زينب).
الانتصار بقوة المقاومة
< في الوقت الذي نعاني انقلاباً في المفاهيم، وإحلال مصطلحات جديدة تناقض مخزوننا الثقافي والفكري، تشيرين في روايتك إلى مرحلة من مراحل الثورة السورية الكبرى، ودور الشيخ صالح العلي فيها، وصولاً إلى الاستقلال، ومواقفه في التأكيد على أن الحاضر يكاد يكون صورة عن الماضي الذي ليس ماضياً سحيقاً، ما الرسالة التي تريدين تقديمها للمتلقي، ولأجيال لم تشهد هذه الثورة، وتعيش اليوم تخبطاً بما يسمى الربيع العربي،‏ في الوقت الذي زلزلت الحرب على سورية الثقة بالمثقف والكثير من المبدعين، وخلخلت الكثير من المصطلحات؟ ما دور الكاتب في قول الحقيقة دون خوف؟ وكيف يمكن أن ترصدي بنصك مرحلة مفصلية من حياة سورية؟.
<< لي تحفّظ على مفهوم (الاستقلال).. ومن وِجهةِ نظري أننا لم نحقّق الاستقلالَ بعد.. وأنّ ما يحصلُ في بلادِنا من براكينَ وزلازل، وتشويهِ قِيَم ومفاهيم، يقابلهُ دفاع مُستميت عن حقّنا في الوجود، وحقنا في الحريةِ والاستقلال، وإدارةِ بلادنا بأنفسنا، بكلِّ فسيفساءِ الوطنِ المُتكامِلة، وبكلِّ جَهد مُخلِص، ما هو إلاّ استكمال للاستقلال المَنشود، الذي بدأهُ روَاد أباة، أبطال واعون، منهم المجاهد البطل (الشيخ صالح العلي) الذي قادَ أولَ ثورة ضدّ الغزاةِ العثمانيينَ والفرنسيين، وضدّ أذنابهم، منذ بداية القرن العشرين، واستلمَ الرايةَ منهم كلُّ مَن يحملونَ القيَم الوطنية الجامعة نفسَها، والإنسانية الراقية، وها هم يستبسلون بالدفاعِ عن هذا الوطنِ الأغلى، مُؤكّدينَ أننا أمة عَصيّة على الغزاةِ الطغاة.. وننتصر، بقوّةِ الحقّ، وقوّةِ المُقاوَمة.. أيضاً، لي تحفّظ على صفة (مُثقّف).. فليسَ كلّ مَن حَصَلَ على شهادةِ رفيعة، أو مَنصِب مهمّ، هوَ (مُثقّف).. المُثقّفُ الحقيقيّ هوَ الذي يوظِّفُ مَعرِفتَهُ في خِدمةِ مجتمعه، وخِدمةِ الإنسانية.. ورأينا كيفَ سقطَ الكثير ممّن كنا ندعوهم (مُثقّفين) في حبائلِ الغزاة، بأهداف أنانية، وجَشع ماديّ، أو معنويّ، وادّعوا أنهم طالبو حُرية.. فساهَموا في تهديمِ مجتمعهم ووطنهم، عن عِلم، أو عن جَهل، وفي كلتا الحالَين، أجرَموا بحقّ أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم.. وسيلفظهم التاريخ، كما لفظَ أمثالهم، سابقاً.. أحاوِلُ– ولستُ راضية عن نفسي كفاية– أن أساهِمَ في رَفعِ مُستوى الوعي لدى هذا الجيل، ليدركَ الحقائق، ويعرفَ عدوّهُ من صديقه، وكيفَ أنّ الغزاةَ الطامِعينَ لا يؤتَمَنون، وليست لهم ذِمّة ولا دين.. والغايةُ عندهم تُبرّرُ الواسطة.. وأنّ جَهلنا، وضعفنا، وتفرّقنا يساعدهم على تحقيقِ مآربهم، وأننا بوَعينا ونضالنا ضدّهم بكلّ أشكال النضال، نستطيعُ –بوَحدَتنا– أن نهزمهم، ونبني أوطاننا كما يناسب حياتنا.
عبير القتَّال