ثقافة

أرصفة الغربة.. كناية المفاتيح في نص الطريق

الذين خبأوا مضمرات وجوههم في نص الطريق المؤدية إلى شبهة السؤال، أنكروا ارتباك المسافات حين عبروا الحدود حفاة إلا من دمائهم.
بالأمس رأيت أحدهم يرتقي سلم العزف، يذرف دموع الندم وهو يتهجى ذاكرته بحثاً عن مفتاح “صول” يفك به حجة الغياب.
حين ركبنا عتلة الحلم، ميممين وجوهنا صوب البلاد المترفة الرخاء، تركنا بيوت القصيد خاوية على عروشها كي يعيث بها النقاد المتحذلقون اجتهاداً.
قال أحدهم: يحق لنا السعي وراء المعنى.
وقال آخر: الذين مشوا فوق كنايات الماء على مرأى حراس المدن الفاضلة، يحق لهم الاختزال والتجاور مع الباحثين عن كسرة وطن.
سؤال يغري المشهد البانورامي لصلب الحكاية، ما الوطن؟.
الفكرة نائمة لعن الله من أيقظها، الذين نسوا شيفرات السرد طيّ نواياهم المخاتلة، تواضعوا جميعاً على أن الوطن مفتاح يتيم شنق في سنسالة ذهبية على عنق طفلة بريئة، تعوده مقبلة نقش الهلال الذي التف حول صليب متهادي الحواف، كلما وجم السائرون: “هس.. حرس حدود يا جماعة”.
لعلي منهم، علائقي تشبه علائقهم، وكل المقاربات التي أدوّنها محض ابتلاء، كنا ننحني في خشوع ـــــ وما كنا في صلاةٍ ــــ أنما خوفاً من الكلاب البوليسية المدربة.
البلاغة في الوصف لا تعني فقط توظيف ما نشتهي عند بوابات العبور، لم أنظر إلى الوراء مطلقاً خوفاً من بدعة الإيحاء التصويرية وأنا أتأمل مشهد من وقعوا قبلي في عتبات القول: لماذا أنتم هنا.. لماذا تركتم بلادكم.. أليس لكم وطناً؟.
تبسمت حين تجلّت مخيلتي ببعض رؤاي، وأنا أتلمس جيب بنطالي السمل، متفقداً مفتاح وطني، أقصد بيتي الذي تركته مشرعاً بكل تكويناته البنائية على أطراف المدينة العتيقة، دون أكواد أو مضمر يشي بعودة قريبة.
في الطريق نحو الحلم نكزنا وجوهنا، كل منا يردّد في سره: لكم تينكم ولي تيني.
وحده الرجل الأصلع المتجهم، كان يمشي خارج النص، يحمل وزره فوق ظهره، متماهياً مع ظرفه، ظل يحرضنا طوال الرحلة على الدليل، حفظت مقولته عن ظهر قلب: “اسأل مجرب ولا تسأل مهرب”.
كلما تمادينا في القارة العجوز حالمين بالشقراوات ــــ متماديات الغنج ــــ والرزم الخضراء التي تنتظرنا في مطالع البيان، ينادي المنادي: “استراحة يا شباب”.
كم أمقتك أيها الرجل الأصلع، كلما اقتربتُ من تحقيق آمالي بالمسير أماماً بضعة أمتار تعيدني إلى الوراء ألف ميل.
يفتح الجراب الذي يستوطن ظهره، يخرج منه آلة البزق كبطل أسطوري الشهوة حين يستل سيفه من غمده، يحاكي أوتاره كأم رؤوم، وبعد ثوانٍ يتحول العزف إلى صدح مفتعل: يا طيرة طيري يا حمامة/ وانزلي بدمّر والهامة/ جيبي لي من حبي علامة/هالأسمر أبو الخال/ أنا على ديني جننتيني/ على دين العشق حرام والله.
ذات سؤال قال: أنا من كوباني.
– تقصد عين العرب.
– ليت للعرب عيناً.
مرت شهور عدة، تيقن الجميع أن الحوريات اللواتي حلمنا بهن في القارة العجوز، “نصفهن السفلي سمكة” وأن رزم الأخضر الغاوي ليست موجودة إلا في الأفلام، “ليس كل ما يبرق ذهباً” تحسسوا مفاتيحكم أيها القوم، هذي البلاد لا تشبهنا.
عن حسن نيّة ـ لربما ـ ومنذ أيام علق موظفو دائرة الهجرة حيث نقيم إعلاناً جديد اللهجة، مروساً برقم هاتف داخلي يقول: “لا تتردد.. اتصل بنا، إنه خط الحنين والعودة إلى الوطن”.
لا أدري لماذا هاتفني الرجل الأصلع على عجالة: أنا راجع إلى سورية، “ما عرفت اندمج”.
لم يترك لي فرصة الكلام، بل ترك هاتفه يطنّ في أذني صمماً، لم يغيّر اتصاله في الأمر شيئاً، ها أنا بين كل برهة وبرهة، أعزي نفسي متلمساً جيب بنطالي السمل بحثاً عن مفتاح وطني.. أقصد بيتي.
النمسا- طلال مرتضى