ثقافةصحيفة البعث

“نوافذ ثقافية” يطلّ على إبداع أمير البزق

أمينة عباس

ارتأى الباحث الموسيقي إدريس مراد أن يبدأ سلسلته الجديدة من مشروع “نوافذ ثقافية” في المركز الثقافي في أبو رمانة بدمشق بندوة عن الموسيقار وعازف آلة البزق الراحل محمد عبد الكريم.

وبيَّن مراد أن المشروع هذا العام يقام بدعم من مديرية المسارح والموسيقا للحديث عن شخصيات لها تأثير في الساحة الفنية، وفي هذا العام سيخصص فعالياته للمسرح وعلاقته بالموسيقا، وقد وجد أن خير بداية له الاحتفاء بأمير البزق محمد عبد الكريم.

قامة عالية في الموسيقا

وبيَّن الصحفي علي الراعي أن محمد عبد الكريم ولِد عام 1911 في حمص وتعرّض خلال طفولته لحادثٍ أثّرَ على عموده الفقري فأوقف نمو جسمه عند طولٍ لم يتجاوز 98 سم وكانت فرقة عائلته، التي تشكلت من والده عازف البزق والعود ووالدته صاحبة الصوت الجميل وشقيقيه، المناخ الأول الذي تشمم عطر نسائمه الموسيقية فيه، فكان منذ صغره يعزف على آلة العود والبزق في أفراح المدينة بمرافقة والده، ولم تمضِ السنة السابعة من عمره حتى كانت أخبار موهبته تعرفها المدينة، لينتسب إلى نادي دوحة الميماس عازفاً ضمن فرقته الموسيقية، ثم انتقل مع والدته إلى دمشق في عمر العشر سنوات، وفيها رافق المُغرم بفن خيال الظل أبو شاكر في العزف في عروضه التي كان يقدمها في مقهى النوفرة، وساهم أ.فخري البارودي الذي عُرف عنه شغفه بالفن والثقافة في انضمامه إلى أشهر فرق دمشق الموسيقية، ومنحه اسمه محمد عبد الكريم الذي اشتهر به بدلاُ من اسمه الحقيقي عبد الكريم مرعي.

وبين الراعي أن أولى رحلات محمد عبد الكريم الفنّية خارج دمشق كانت إلى حلب التي أحيا فيها العديد من الحفلات التي نالت الإعجاب، وخلال ذلك تفتحت موهبته في التلحين، فوضع أول ألحانه الغنائية لأغنية “ليه الدلال وأنت حبيبي” التي غناها بصوته، كما تعرّف فيها على الموسيقي كميل شامبير الذي نصحه بزيارة القاهرة التي أقام فيها عام 1925 وتعرّف على كبار الموسيقيين، ومنهم محمد عبد الوهاب الذي قال حين استمع إليه لأول مرة: “إذا كانت الموسيقا الغربية تفتخر بباغانيني كأشهر عازف للكمان فإن الموسيقا الشرقية تفتخر بمحمد عبد الكريم كأشهر عازف للبزق” وعرض عليه وكيل شركة أوديون الألمانية للأسطوانات عام 1927 السفر إلى ألمانيا لتسجيل عدة أسطوانات وإحياء العديد من الحفلات. وهناك استحق إعجاب الألمان، ومن ألمانيا جال في عدد من البلدان الأوربية فانتزع إعجاب الفرنسيين وأدهش الإيطاليين، وفي أواخر العشرينيات من القرن المنصرم سافر محمد عبد الكريم إلى بيروت وتعرّف على عازف البزق اللبناني محي الدين بعيون الذي افتتن بعزفه، فقدمه إلى الوسط الفني اللبناني وانضم إلى فرقة الأخوين أمين وسليم عطا الله وشارك في جولتها الفنية في لبنان وسورية وفلسطين والعراق، ليعود بعدها إلى دمشق وإذاعتها حيث وضع لها الشارة المميزة التي تسبق افتتاح البث الإذاعي يومياً، مع إشارته إلى أن أكثر من إذاعة في ذلك الزمان كانت شاراتها الموسيقية من إبداعه، ومنها على سبيل المثال إذاعة القدس التي دُعي إليها سنة 1936 لحضور افتتاحها، حيث عمل عازفاً ضمن فرقتها الموسيقية، وبعد ذلك تولى رئاستها، وكذلك شارة إذاعة الشرق الأدنى البريطانية في يافا التي شكّل فرقتها الموسيقية، وتولى رئاستها، ليختتم فيها رحلاته، ويقضي حياته وحيداً في غرفة متواضعة إلى أن رحل في كانون الثاني 1989 حاملاً لقب “أمير البزق” الذي منحه إياه بفرمان ملكي ملك العراق فيصل بن الحسين عندما كان يستمع له في إحدى حفلاته.

عبقريته الموسيقية

وقال الصحفي سامر الشغري أن محمد عبد الكريم عبقرية موسيقية عالمية، إذ كان عازفاً ومؤلفا وملحناً موسيقياً مبدعاً، وشكلت الإعاقة له، كما قال الباحث سعد الله آغا القلعة، تحدياً، فكان يحاول دائماً إثبات مقدرته وتفوقه على الآخرين دون أن يدرس الموسيقا التي تعلّمها من العازفين الكبار، فوضع مقطوعات موسيقية زاد عددها على العشرين، من أشهرها: “رقصة الشيطان”، “مداعبات الصباح”، رقصة الساحرة” و”مارش تحية العرب” التي تمثل برأيه قمة عبقريته الموسيقية، فالذي يستمع إليها يشعر أن هناك معركة حقيقية بين الآلات الموسيقية يقودها بكل مهارة، بالإضافة إلى قدرته على تطويع البزق في القوالب الغربية كما في مقطوعته “فالس يا حياتي”، وكانت هي المرة الأولى والأخيرة التي يقدم فيها مؤلف موسيقي عربي على عزف هذا القالب “التانغو”، في حين جسد في مقطوعة “آلام الطير”، وهي من مقام النهاوند، انتقاله بين العواصم، حيث وجد في نفسه صورة الطير المتألم عبر تنقلاته الموسيقية المتسارعة، مستخدماً تقنية العزف على لحنين مختلفين في آن معاً ليعطي أكثر من معنى وأسلوب، مبيناً كذلك أنه كان أول من قدّم قالب السيريناد الغربي من المؤلفين العرب كما في مقطوعة “أشجار الصنوبر” التي حاكى فيها قصة حياته، مشيراً إلى أن تحديات كثيرة خاضها مع كبار الموسيقيين في جميع أنحاء العالم، وفي كل مرة كان يثبت فرادة موهبته وغناها.

وتوقف الشغري عند أغنية “رقة حسنك وسمارك” التي تمثل برأيه السهل الممتنع والفريد في التلحين، حيث اعتمد عبد الكريم على تقديم اللحن بأربعة مقاطع لحنية لا يشعر المستمع بالانتقالات فيها، مستخدماً إيقاع اللف الذي يُستخدم عادةً للرقص والتطريب، وهذا أمر نادر في التلحين العربي فكانت الأغنية رغم قصرها نسبياً تجاري في تقنياتها الأغاني الطويلة، موضحاً أنه يُحسب لأمير البزق ابتكاره مقاماً موسيقياً جديداً أطلق عليه اسم “مريوما” وإجراء تعديلاتٍ عديدة على آلة البزق مما زاد طاقتها في التأليف الموسيقي، إلى جانب إبداعه في السماعيات واللونغايات في مقامات موسيقية مختلفة.

سابق عصره

تخلل الندوة عزف لبعض مقطوعات محمد عبد الكريم من قبل العازف بحري التركماني الذي بيّن في تصريح لـ “البعث” أن عبد الكريم كان سابقاً لعصره وأن عازف البزق يحتاج للكثير ليصل إلى ما يشبه ما وصل إليه أمير البزق، مفتخراً أنه ينتمي إلى مدرسته التي نقلت آلة البزق من آلة شعبية إلى آلة تُجاري الآلات الأخرى في قدرتها الموسيقية، ورأى أن أهم ما يفتقد إليه كعازف بزق اليوم هو عدم وجود منهاج لهذه الآلة حتى الآن.