ثقافة

للحيطان آذان وذاكرة “الوحل” ثلاثية الروح والأنثى والأرض التي تجعل للحيطان قلباً

الكتابة مغامرة، خاصة حين تتناول الحدث الراهن المتفاعل المعاش، الحب وأنت تعيشه، الألم وأنت تكابده، قلوبنا وهي تواجه الموت.
المغامرة ستكون أشد عندما تكتب بشمولية عن الحرب بتداعياتها، الدمار والخراب، الموت، الفناء، التهجير وفي نفس الوقت عن الصمود والتضحية، البطولة، الإقدام، عن الدم  الذي يقطر من الرؤوس الطاهرة التي قُطعت بوحشية بأيدي إرهابيين  مجرمين.
هكذا تبدأ رواية “للحيطان ذاكرة” بجزئها الأول “الوحل” بالدم، بالعجوز علي اليتيم ذي العنفوان والهيبة يتلقى خبراً مفجعاً وهو خبر قطع رأس ابنه سعد الضابط في الدفاع الجوي.
الخبر بداية في الرواية لكنه ليس بداية في الأحداث فهو  نتيجة تراكمية لأحداث سابقة سنعرفها بالترجيع، وهو  ليس خاتمة فثمة سلسلة من الأحداث المؤلمة ستأتي فيما بعد.
تعود بنا الرواية من الآن الراهن إلى  نهايات القرن التاسع عشر، بدايات القرن العشرين، تلك الفترة الغنية الضاجة سياسياً وعسكريا والتي شهدت أحداثاً دموية كالمذابح التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن والسوريين بكل أطيافهم، لنكتشف أن  الرواية تبدأ من تلك الحقبة وليس من الآن، الراهن. ولتتبين أن زمن الرواية هو زمنان متصلان ومنفصلان، فهو زمن واحد بالسيرورة والتاريخ، وزمنان مختلفان بطبيعة الحدث، وبالمعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية. تقوم الرواية على التنقل بينهما وفق مقتضيات الحدث والغرض الجمالي الإبداعي.
المكان هو سورية وليس هناك من ساحة للحدث الآن وتاريخياً أهم منها، سورية بمفرداتها، أنطاكية، لواء اسكندرون، دمشق، حمص، طرطوس، اللاذقية، القرية البحر..
تتوزع أحداث الرواية بين كل هذه الأماكن وكما أسلفنا على حقبتين مفصليتين ومصيريتين من تاريخ سورية:
حقبة نهاية العهد العثماني وبداية الاستعمار الفرنسي والتي تستمر إلى زمن سلب لواء اسكندرون بمؤامرة قلب الحقائق التي شارك فيها كل من فرنسا وتركيا وعصبة الأمم وعملاء الداخل، كما يحدث الآن تماما، والتي انتهت بسلخ اللواء عن الأم التاريخية الأزلية له سورية.
وحقبة الآن، الزمن المستمر الذي لم ينته بعد، بأحداثه المعاشة والتي تتفاعل يومياً  في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تلك الأحداث التي ترسم مصير سورية المستقبل، والتي تمثلت بتلك الحرب الشرسة بأهدافها القذرة الهادفة إلى تدمير البلد وجعله مجرد صدى باهت لدولة قوية سابقا، نفس القوى تشترك الآن في ذلك أيضاً وبشكل أشرس وكأنهم “الخابيرو الجدد” قبائل القوى المستعبدة والمستأجرة والتي هاجمت سورية تاريخيا قبل الميلاد بحوالي ألف عام، لكن سورية بقيت وستبقى.
واءم الكاتب بين الحقبتين وقاطع بينهما بموجب مقتضيات العمل الروائي بمهارة، مستحضراً أحداثاً وشخصيات كانت فاعلة ومنفعلة منها شخصية “عمر باشا غوني” الضابط العثماني الانكشاري، الذي عايش وكان شاهداً على المذابح العثمانية بحق الشعوب الأخرى، التهجير والنزوح والاضطهاد، والذي انقلبت حياته بفعل  مواجهته لإيليا الأرمني في زحمة المذابح، وكان قد قابله قبل ذلك ليستلف منه ليرة ذهبية أنقذته من الإفلاس حيث عاد واسترد بها ثروته مضاعفة أضعافاً التي كان خسرها  في لعب القمار، لم يسأله ايليا حينها من أنت ولم.. وهل سترد الليرة أم لا.. وهو بحث عنه طويلاً دون جدوى.
المواجهة الأهم التي أتمت انقلاب حياته وتحوله، هي مواجهته لهيفاء التي أنقذها بعدما تخلى عن سمته العسكرية وشرد تاركاً الخدمة عقب إطلاق سراح إيليا ومجموعته الذين كانوا من حصته وكان عليه التصرف بهم وذبحهم.
التقى بهيفاء المغتصبة المذعورة والتي تأجج هلعها برؤيته، لكنه عمل على إنقاذها معلنا بذلك خروجه من إيهاب السفاح ليستكمل بذلك بطقوس التطهر بما يشبه المعمودية.

نقرأ من الرواية:
“في رحلة عودته توقف قرب نبع ماء، ربط حصانه بشجرة وارفة وذهب ليغتسل، خلع سترته العسكرية وألقاها بجوارها فبانت العضلات المفتولة لفارس حقيقي، نزع سيفه من غمده وغرزه في مسيل الماء”.
هيفاء التي استفاقت أول ما رأت سترته العسكرية اندفعت لتمزيقها وهي تبكي وتضحك بشكل هستيري، منذ تلك اللحظة حرص على عدم ارتداء الزي العسكري وترك سترته ونياشينه وسيفه قرب النبع وعاد رجلاً بقلب طفل تراوده الأحلام والكوابيس وليس له من أم تحنو عليه”.
يتابع هذا التطهر بإحدى الطرق الصوفية، ليكتمل بعد ذلك بالموت إثر لسعة أفعى، الموت التدريجي للجسد والذي يترافق مع الخلاص التدريجي للروح.
من الملاحظ أن المكان يلعب دوراً كبيراً في التطهر الذي ترافقت مراحله مع النزوح والانتقال.
الشخصية الأخرى هي علي اليتيم صنو عمر، والذي تعبر روحه وذاكرته إليه لتلبس جسده الغض قميصاً جديداً، هذه الروح المطهرة كان عليها أن تعبر إلى التنوّر وقد فعل علي ذلك أيضاً بما يحاكي طقس المعمودية، فقد اصطحبه شيخه إلى البحر، أنزله إلى الماء وغمره به حتى ضاقت أنفاسه.
“فعل ذلك أكثر من مرة وهو يتمتم غير مكترث بمقاومته وحركاته، شهيقه وزفيره المتقطع، نفسه المخنوق وسعاله المتكرر، وبسرعة قفز الفتى من حلاوة الروح وتشبث برقبة الشيخ الذي خرج به إلى البر قائلاً: ها قد ولدت من جديد وأصبح لديك ما تخاف عليه”.
علي أيضا كان للمكان دوراً في تنوّره، فقد نزح شمالاً لينال ذلك ساعياً إلى نفس النقطة التي كان فيها عمر، وكأن ذلك استكمالاً لما بدأه ومضيا في صيرورة التنور والصفاء.
عمر واجه الآخر مع إيليا الأرمني وهيفاء السريانية أما علي فقد واجهه في لواء اسكندرون مع المعلمة الفرنسية وأبيها الذي يعمل في مجال النفط والتي لم تخرج عن العقلية الغربية الاستعلائية الاستعمارية، مواجهة عمر ساهمت في تطهيره، بينما في حالة علي ساهمت في تنويره.
عمر باشا غونيه وعلي اليتم، اسمان وجسدان، روح واحدة، ذاكرة واحدة وأنثى واحدة، هي هيفاء التي كانت زوجة للجسدين وللروح الواحدة، وبقيت عذراء حتى وفاتها في بتولية رمزية لتبقى جديرة بالتطهير.
الرواية تقوم على الثنائيات، ثنائية الشخصيات، الزمان والمكان، فحبيبة ابنة علي اليتيم هي حبيبة الأخرى، وأختها التي ماتت صغيرة وأخذت اسمها، تأخذ حيزاً كبيراً في الرواية وهي اليسارية التي تأخذ على عاتقها طرح الرأي الآخر والتي تعيش تحولاً يساهم به الدم كما عاشه الكثيرون ومنهم صديقها أيمن إضافة إلى شخصيات أخرى تتبدى بخطين في سياق العمل.
أغلب الشخصيات اتصفت بغرابة مولدة للدهشة، بمزاجها وتعاملها مع الوسط المحيط بها رغم أنها، المعاصرة خاصة، حاضرة بشكل مألوف من لحم ودم حتى نكاد نسمع أصواتها.
لم تسر الرواية بخط سردي واحد وبهارمونية درامية تقليدية، فسويات الزمان الروائي واختلاف المكان، تعدد الشخصيات والأحداث، فرض بناء سردياً أقرب للمونتاج، التناوب في رصد الأحداث والتنقل من شخصية لأخرى ومن زمن لآخر، على إيقاع تداعيات الذاكرة أحيانا ومقتضيات الحدث وتداعياته أحيانا أخرى.
اللغة الحامل المعرفي والجمالي أتت بسويات مختلفة من المألوفة إلى الشاعرية، والشاعرية ليست شاعرية السرد في سياق العمل الروائي فقط، بل الشعر الذي وظفّه الكاتب في  الغائية الدرامية، وكأن الكاتب لم يرد للشعر، فأفسح مساحة له.      التناص واضح في الرواية، مع النص القرآني”سورة يوسف” ومع النص الصوفي وقد ساهم في غني النص وذلك بفتحه على آفاق أوسع، فقد فعل التناص هنا ما يفعله التأويل في البحث عن المعنى و تجاوز الدلالات المحددة.
الرواية مغامرة حقيقة وذلك لجرأتها في تناول الراهن الساخن، حيث تكمن محاذير كثيرة في ذلك منها أن يكون الحدث المعاش والمتفاعل أكبر وأشمل من الكتابة فتغدو الكتابة قاصرة دلاليا وجماليا.
لم تقع الرواية في هذا المطب وذلك لأن الكاتب تناول الحدث الحالي على خلفية أحداث تاريخية ذات علاقة عضوية به، فتخلص بذلك من قيود الأحكام الجاهزة، وبذلك لم يقع في مطب الأدلجة والتنظير والطروحات المبتذلة.
الرواية كتابة مختلفة في زمن كل ما فيه مختلف، لكن اختلافها جاء بأثر جمالي ثري وممتع  مع كل ما فيها من ألم وخيبة و.. أمل.

مفيد عيسى أحمد