“فاتت جنبنا” رائعة عبد الحليم رقصة الفالس مع إيقاعات أمريكا اللاتينية
“فاتت جنبنا”رائعة عبد الحليم حافظ وإحدى مطولاته التي شبهها الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا في محاضرته “بالسمفونية” لأنها قصة وليست أغنية عاطفية،تميّزت بالأداء الغنائي العاطفي للعندليب الأسمر ومحاولته التفريد،وبراعة عبد الوهاب الذي نوّع بالمقامات ومزج بين الإيقاعات الشرقية وإيقاعات أمريكا اللاتينية،وطوّع الآلات الغربية لخدمة الموسيقا الشرقية،والأهم أنه استخدم فيها الآلات الكهربائية التي كانت غريبة آنذاك.
الأمر اللافت هو انسجام الحاضرين بالمنولوج الذي أعادهم إلى زمن السبعينيات عبْر ساعتين بين التحليل المباشر ومتابعة الفيديو بالصوت والصورة.
الإحساس أكبر من التطريب
صوت العندليب الأسمر استقبل القادمين إلى قاعة المحاضرات عبر منولوج “فاتت جنبنا” في إحدى جلسات تعليم الغناء بمرافقة اللحن مع أستاذه عبد الوهاب،فخيم صوته وإحساسه الرومانسي وأداؤه الغنائي الدرامي على المكان،ومن هنا بدأ الباحث الموسيقي وضاح رجب باشا بتحليل صوت عبد الحليم قبل الاستماع إلى المنولوج،فكما ذكر أن عبد الحليم امتلك القدرة على التعبير والإحساس بالمعنى بما يشبه الغناء الدرامي أكثر من التطريب،واستطاع أن يفرض وجوده على الساحة العربية رغم وجوده بعصر العمالقة والمبدعين مثل محرم فؤاد –محمد قنديل- محمد فوزي وفريد الأطرش،وأثبت قدرته الغنائية رغم صغر مساحة صوته التي استعاض عنها بإحساس ممزوج بالحب والألم لاسيما أنه عانى من المرض.ويعزو الباحث أحد أسباب نجاح عبد الحليم إلى قربه من عبد الوهاب وتعلمه منه فنّ الإتقان.ووصف منولوج “فاتت جنبنا”بأنه صعب التلحين لأن كلماته نثرية وليست شعرية،فهي قصة وليست أغنية عاطفية كتبها الشاعر الغنائي حسين السيد الذي كتب له “توبة-شغلوني-أهواك –عقبالك يوم ميلادك- يا خلي القلب –ظلموه..”وفاتت جنبنا تحكي قصة لقاء غير متوقع بين شاب وصديقه الوهمي مع فتاة لطيفة تتميز بابتسامتها الجذابة،فيعيش البطل حالة انفعال داخلي ويصبح أسير ابتسامتها ليتصاعد الحدث بحالة صراع بينه وبين صديقه لتأتي النهاية السعيدة ويعرف أنها تبتسم له.
من الصبا إلى العجم
تبدأ المقدمة الموسيقية بجمل هادئة من مقام الصبا تمهيداً لدخول مقام العجم الذي استخدمه في معظم مقاطع المنولوج،ووفق التوزيع الأوركسترالي بمشاركة خمسة وأربعين عازفاً اتخذت الفرقة شكل فرقة سيمفونية،وقد وظّف عبد الوهاب آلة الغيتار والأورغ للتحاور مع بقية آلات الأوركسترا معتمداً على خليط من الإيقاعات الشرقية مع إيقاعات أمريكا اللاتينية بجمل لحنية وصفها الباحث بأنها غاية بالروعة وتظهر عبقرية عبد الوهاب،وفي هذه المقاطع استخدم آلة الأكورديون الكهربائي لأول مرة في تاريخ الموسيقا ثم دخل إلى إيقاع الفالس،فأوجد أجواء موسيقية ساحرة برومانسية غربية،ثم صولو لآلة الناي والغيتار مستخدماً أيضاً آلة البزق الكهربائي الذي لم يستخدم آنذاك في الفرق الموسيقية الشرقية.وأوضح الباحث بأن عبد الوهاب أفضل ملحن بتطويع الآلة الغربية لتخدم الموسيقا الشرقية.
وبعد الاستماع إلى المقدمة الموسيقية الطويلة توقف الباحث عند مقطع تسليم المطرب من خلال جمل موسيقية انسيابية طويلة تمهيداًل لغناء فبدأ بفاتت جنبنا.
وعلى مقام العجم ذاته دخل الملحن “الكوبليه الأول” بتغيير متواصل للإيقاعات مع الحفاظ على السوية العالية للجملة اللحنية،وتوقف الباحث ليحلل المقطع،فهنا شيء جديد سيحدث اللقاء العابر ليعقبه لقاء آخر يؤجج مشاعر الحب في قلبه،فيتحول المقام إلى مقام الصبا برقة صوت عبد الحليم مع ما وصفه الباحث ب”تصرفات صوتية” سمح له الملحن بها،وركز الباحث في هذا المقطع على طغيان الموسيقا وبساطة الجملة اللحنية بسبب مرض عبد الحليم ووضعه الصحي السيئ.
“حالة مش معقولة هي هي/وابتديت أسمع بقلبي لحن حب/لحن حب جديد عليّا” وظهرت براعة عبد الحليم بالأداء الغنائي وبتلون صوته ليعبّر عن حالة الحبّ.
إيقاع خطوة الحصان
في “الكوبليه الثاني”يدخلنا المنولوج بعالم لحني جديد ومقام جديد هو النهاوند.وهنا توقف الباحث ليشير إلى براعة عبد الوهاب باستخدام آلة الأكورديون الكهربائي،وكانت آلة غريبة على أذن المستمع العربي،وظّفها عبد الوهاب بالإيقاعات المستمرة والمتغيرة والتي شبهها الباحث بما يشبه خطوة الحصان وتنقله بخفة ورشاقة.فمن “ضحكت تاني نفس الضحكة وراحت ماشيا”إلى التغيّر السريع “هو حسّ بي وانشغل هو كمان كنت عايز أسأله”…إلى “رجعت أقول” “أنا بفكر ليه”
ثم نوّه الباحث إلى الجمل الموسيقية التي توحي بالصراع العاطفي فتغيرت الجملة الموسيقية “فرحان عايز أضحك مهموم عايز أبكي”بين الحادة بفرحان والمنخفضة بمهموم ليتوقف عند الجملة المتسائلة “حبيتها أيوا أنا حبيتها مش يمكن دي فرحت عمري والفرحة ماصدقت لقيتها”.
التحاور بمقام الكرد
وهنا بدت قدرة عبد الحليم التعبيرية الهائلة على إخضاع الموسيقا للمعنى الكلامي،إلى و”بعد يومين ابتدا قلبي يصحا”دخل كما يقول الباحث وضاح باشا إلى مقام الكرد،وهو مقام تعبيري قوي ليجسد المحاورة الخيالية بينه وبين نفسه،وعند جملة “ما لقيتش طريق قدامي”يقطع الإيقاع ليمهد للتفريد كما تفعل أم كلثوم لكنه برأيي الباحث لم يوفق،ثم تأتي النتيجة القادمة والمضحكة،والأمر اللافت أنه كما بدا واضحاً بالفيديو أن عبد الحليم فقد القدرة على الغناء وضحك .
“وقالت لي أنا من الأول بضحك لك يا سمراني”
ويصل إلى ذروة الأداء بعودته إلى المقام الأساسي العجم ليقفل بالنهاية السعيدة بجملة موسيقية فرحة وضاحكة تخدم المعنى اللفظي “أنا أنا مش هو”
وأنهى الباحث تحليله بأن المنولوج كان رائعاً وتميّز بمقامات كثيرة وإيقاعات ومن الصعب حفظه،ورغم طغيان الموسيقا إلا أن عبد الحليم تغلب على مرضه ونجح بأدائه.
وعلى هامش المحاضرة
إصغاء الحاضرين لنغمات الموسيقا وصوت عبد الحليم كان نقطة بداية لتفعيل نادي الاستماع الموسيقي مع بداية العام القادم ،كما ناقش الباحث مع الحاضرين العلاقة الحميمة التي تربط بين الملحن والمغني في زمن الموسيقا الجميل من حيث طريقة تعليم اللحن مع الأداء عكس ما يحدث الآن في الإبهار البصري للفيديو كليب.
ملده شويكاني