ما الذي يريده نزار قباني من المرأة؟
سؤال طرحته على نفسي بعدما قرأتُ معظم دواوينه وكتبه النثرية، ومشيتُ برغبة في طريق إبداعه والتقطت بفرح طفلةٍ مجنونةٍ باللون والضوء والأفق البعيد، تلك الصورة المرصوفة بتفرّد على جانبي الدرب الطويل، ودخلتُ باهتمامٍ عالمه الشعريّ الذي تؤرّثه المرأة،هذا الكائن الذي سافر في دمه ألقاً، عالم الأنوثة الذي بقيَ عقوداً يحتفي به ويستمدّ إبداعه منه، حتى أُطلق عليه ألقابٌ عدّة لا مجال لذكرها، ولكن أهمها وأبرزها أنه شاعر المرأة، وشاعر الوطنية. فهل كلُّ نسائه فجّرْن لديه حباً وخضبن بياضه شعراً؟.
يجيبُ هو أنه على الرّغم من معرفته بهذا الكمّ من النساء إلا أنه نادراً ما وقع في حبّ حقيقي! وهل نسينا قصيدته التي يقول فيها:
“لن تفهميني أبداً/لن تفهمي أحزان شهريار/فحين ألف امرأة ينمن في جواري
أحسّ أن لا أحداً/ينام في جواري”.
لقد أحبّ بعدد أصابع يده الواحدة، فالمرأة لكي تتشكل حبيبته يتوجب عليها أن تأخذ بشروطه، وهي شروط ليس بصعبة إن ارتأت المرأة التي اخترق حبه أعماقها أن تكونها؟
أولى تلك الشروط أن تشبهه، وثانيها أن تكون أمه، هو الذي لم يبرح ضفاف صدرها يوماً، ولا غادر حليب ثديها شفته. وثالث تلك الشروط أن يكون شعره جزءاً من عمرها كما هو جزء من عمره.
تلكم شروطه، لم تتغير قط، على الرّغم من اقترابه مشارف العقد السادس.
نقرأ اعترافه:”لم تتغير مطالبي من المرأة كثيراً، فلا أزال أبحثُ عن أمي في كلّ امرأة أقابلها، لا أزال أبحث عمن ترضى أن تسكن معي أنا وشعري تحت سقف واحد”.
ونسأل لماذا أمه؟ ألأنها لم تغادره أبداً؟ أم لأنها أتحفته برعاية خاصة خلقت منه عنجهية الرجل في داخله، ربما لإحساسه بالأمان والطمأنينة وهو على صدرها أو بجوار رائحتها.
“منذ أن كنت في بطن أمي/وأنا أخطط كي تكوني حبيبتي”.
هو لا يرى بعينيه وقلبه ومسامه سوى أمه، وأية امرأة ستكون له حبيبة عليها أن تتقمّص شخصيتها، ثم ترتدي الشروط المتبقية لباساً ليتقبلها.
“وفي حالة العشق/يصبح ثوب الحبيبة بيتاً/ويصبح أماً”.
ثمّة قصائد عديدة يبرز الشاعر من خلالها هذا الشعور، شعور أن الحبيبة أمٌّ، وأنها وطنٌ. فالمتتبع لخطوه الشعري، ومنذ ديوانه الأول “قالت لي السمراء” وهو يصرّح بأنّ المرأة التي أحبها إنما تشكل له وطناً، لهذا ظلَّ مولوياً دائراً في عالمها الأثير لديه. وعلى الرّغم من ترحاله إلا أنه حيثما حلّ يجدُ وطنه
“وكيف أزعم أني دونما وطن/وكل أنثى أحبتني هي وطن”.
فالمرأة منذ القدم كانت وطناً لكثير من الشعراء، حتى إنّ وجودها لم يفارق قصائدهم، راحوا يمجدّونها، ويذكرونها بما يريحُ القلب والنفس، حتى إنها باتت لبعضهم الموضوع الوحيد والفريد في كلّ أشعاره. الموضوع الذي يقول كلّ ما لديه من خلالها، فهي البداية والنهاية، وهي الرحلة والطريق، والوسيلة والحلم والوصول. ومن بينهم شاعرنا الدمشقي “نزار قباني” الذي حقق من خلال المرأة ذاته الشعرية، ووسم قصائده بحضورها، وبالتالي استقامت له وطناً، وملاذاً، فقد جعلها دائمة الاشتعال والتوهج، وكانت موضوعه الأثير.
سُئل مرّة:”لماذا تكثرُ من الشعر عن المرأة وتنسى الوطن” فدهش مما اتهم به قائلاً:”إنّ شعري كله ابتداء من أوّلِ فاصلة، حتى آخر نقطة فيه، وبصرف النظر عن المواد الأولية التي تشكله، والبشر الذين يملؤونه من رجال ونساء، والتجربة التي تضيئه سواء كانت تجربة عاطفية أو سياسية هو شعر وطني”. فشاعرنا مترف بالأفكار المتجدّدة، وخياله واسع، يمتلك منجماً من الصور تتوالد دائماً، ومع ذلك يصوغ كلّ ذلك في موضوعه الأثير والوحيد. هو الذي يستغرب ممن يفصل في شعره بين المرأة والوطن:
“كلما كتبت باسم امرأة/أسقطوا قوميتي عني، وقالوا: كيف لا تكتب شعراً للوطن
فهل المرأة شيء آخر غير الوطن؟”.
علينا أن نعيد قراءته، قراءة مغايرة، ولنبحث في كلّ قصيدة له عن وطن شكلته امرأة عاشقة له، بعد أن لبست لبوس أمه.
فهل نستطيع الفصل بين الأثافين الثلاثة؟!.
نجاح إبراهيم