ثقافة

في انتظار جُحا

في الوجدان الجمعي العربي، تحضر شخصية “جُحا” بقوة عبر العصور، ليس بصفة ماضوية لم يبق منها إلا الذكرى، بل بحضور شبه يومي ومستمر وكأنها شخصية حية بيننا، لم ينته وقتها ولا وقت وجودها ومفاعيله بين الناس، مادامت العدالة الاجتماعية والإنسانية غير محققة، فخلف المظهر الرث والجنون الحكيم الذي ظهرت به هذه الشخصية الحكائية العابرة للازمان، تقف برسوخ يقيني شخصية  مكتسية بالحكايات القصيرة والرشيقة والأهم المعبرة، عن وجع الناس وأحوالهم وعن ظلم أهل الملك وأفعالهم، ولأنه تغير الزمان وتغيرت ظروفه وطبيعته، إلا أن “جحا” مازال يحكي بلسان حال الجميع، وينطق بما لا يقدر عليه الجميع، والسجن أو النفي أو حتى القتل الذي كان يوما ما مقدرا له – نظرا للسانه السليط وحنكته التي لا تسر أهل السلطان- صار هذا السجن مفتوحا على عوالم وأزمان، شعوب وأمم، حقائق وأوهام، ولم يعد من حدود لـ “جحا” فالرجل صار حضورا مستمرا لا ينقطع مدده اللاذع ولا طرفته الساخرة.
إن حاجتنا في كل زمان ومكان لشخصية كشخصية جحا، ليست نابعة فقط من كونها “العلّاقة” التي يعلّق الناس عليها أوجاعهم وهمومهم الحياتية التي يصيغونها على شكل طرفة انتقادية لاذعة حينا ودالة حينا آخر، منها مثلا تلك المرتبطة بالأوضاع الاجتماعية التي لم يتحقق فيها أي شكل من أشكال العدالة في الحياة العربية عموما ومنذ قديم الزمن وللآن، حيث تبادر هذه الشخصية لأن تنطق هي بما فيهم – أي الناس- قبلهم، كونها منهم وفيهم، فكأنهم هم نطقوا، ولكن بلسان “جحا” وما على الممتعض من الموضوع إلا أن يحاسب جحا نفسه، والسؤال: أين جحا؟- بسيطة وعبقرية الفكرة أليس كذلك- حاجتنا إلى “جحا” هي حاجة حسية أيضا وربما شخصية، لأنه يمكن أن يكون أنتَ أو أنتِ، هو أو هي، في الحقيقة إنه الجميع، فرادى وجماعات، لذا حمّله الناس جيلاً بعد جيل مسؤولية قول ما يخافون قوله؛ فهو بغياب وجوده الحقيقي، ثم برمزية حكاياته، وفر للمجتمعات مساحة لتناور أساليب السلطة سواء السياسية أو الدينية وطبائعها، وأصبحت “طرائفه” وسيطاً يعبر عن وجدان المجتمع بنموذج تعبيري يجمع بين البساطة والوضوح والمفارقة الذكية، إضافة إلى عمق الوعي والنقد، والغريب أن هذه الطرائف لا تزال صالحة لكل زمان!.
يذهب العديد من الذين درسوا هذه الشخصية وحضورها العميق في الوجدان الجمعي العربي وفي الأدب أيضا، إلى الاتفاق على أن قيمة “جحا” الحقيقية لا تكمن في كونه شخصية تاريخية فعلية، بل في كونه شخصية ثقافية خيالية!، أبدعتها المخيلة الشعبية ليقول ما لا يستطيع الناس قوله مباشرة وصراحة من نقد لمنظومات السلطة السياسية والثقافية والدينية والمجمعية؛ فهو الفيلسوف الناطق عن الوعي الشعبي، الضاحك المضحِك، الذي لم يكن شخصاً حقيقياً يُمكن أن يحاسَب فيعاقَب أو يُمنَع عن الكلام فهو (لا أحد من الناس، ولكنه في الوقت نفسه كل الناس) بوصفه حامل وعيهم وهمومهم، المعبِّر عنها بطرائف ومواقف تجمع بين، الذكاء والتغابي، وهو أيضا الفارس الشعبي الذي يمتطي الحمار- الحيوان الذي يصلح لأن تكون المدينة بأناسها ميدانه، وسلاحه ليس السيف أو الرمح وغيرها من أدوات الفرسان، بل هو لسانه السليط وحجته التي لا ترد وسخريته اللاذعة.
جحا في التاريخ
تاريخيا نسبت هذه الشخصية إلى العديد من الأسماء التي كان لها حضورها وأثرها في مجتمعاتها، الأدب العربي، نسب جحا إلى “أبو الغصن دُجين الفزاري” الذي عاصر الدولة الأموية وهو أقدم شخصيات جحا والنكات العربية تنسب له، وأيضا تنسب شخصية جحا إلى أبو نواس البغدادي الشاعر الكبير الذي عاصره هارون الرشيد، وعرف عنه عدا عن شعريته العظيمة وسخريته اللاذعة ومكره الظريف الذي استطاع أن يرفع عنه نقمة السلطة حينها،  فكاهته أيضا وسعة حيلته، ثم اشتهرت هذه الشخصية لاحقاً باسم “جُحا” في بلاد ما بين النهرين، وما يجمع بين الشخصيتين من صفات نفسية وشكلية، يدلنا على كونها – أي الصفات – كانت هي التي قام الوعي الجمعي بربطها بهذه الشخصية في أي زمن ظهرت فيه، فـ “جحا” رجل فقير، يعيش أحداثه بطريقة مختلفة ويتصرف بذكاء كوميدى ساخر ردا على الأحداث التي كان يعيشها، انتشرت قصصه ومواقفه اليومية  بين الناس، وكانت تنتقل من شخص إلى آخر، مما نتج عن ذلك تأليف الكثير من الأحداث الخيالية على قصصه، فكل شخص كان يروىها بطريقته الخاصة، أيضا ظهرت هذه الشخصية في إسطنبول، حيث نسبت إلى “نصر الدين خوجه الرومي” الذي عاش في قونية معاصرا الحكم المغولي لبلاد الأناضول، كثيرة هي القصص المنسوبة إليه في الأدب العالمي.
ويبدو أن كل الشعوب وكل الأمم صمّمت لها (جحا) خاصاً بها بما يتـلاءم مع طبيعة تلك الأمة وظروف الحياة الاجتماعية فيها. ومع أن الأسماء تختلف وشكل الحكايات ربما يختلف أيضاً، ولكن شخصية (جحا) الذكي البارع الذي يدعي الحماقة وحماره لم تتغيّر، ومن الشخصيات التي شابهت جحا بالشخصية  والفعل “غابروفو” –بلغاريا- المغفل صاحب اللسان السليط، و”آرو المحبوب” –يوغسلافيا-، أيضا “ارتين” في –أرمينيا-، وبعودة بسيطة إلى التاريخ نكتشف أن كل هذه الشخصيات في تلك الأمم قد ولدت واشتهرت في القرون المتأخرة، مما يدل أنها كونت شخصياتها بناء على شخصية “دُجين” العربية الذي سبقهم، بل إننا نجد أن الطرائف الواردة في كتاب “نوادر جحا” المذكور في فهرست “ابن النديم” (377 هجري) هي نفسها مستعملة في نوادر الأمم الأخرى ولم يختلف فيها غير أسماء المدن والملوك وتاريخ وقوع الحكاية مما يدل على الأصل العربي لهذه الشخصية.
حاولت “النكتة” بأنواعها “السياسية والاجتماعية والدينية” أن تحل مكان جحا بين الناس، لكنها فشلت في ذلك، لكونها كانت بلا مصدر ولا متبن موثوق لها كـ “جحا” الأمين، ولئن كانت هذه الشخصية الشهيرة بين الجميع، تأخرت في الظهور في زمن السوء والحرب هذا، فهي لا ريب موجودة، وتبث حكمها ونقدها اللاذع لكل المظاهر السلبية السائدة والمظالم التي لم ترفع بعد، وإن لم يحدث هذا عندنا أو في أي من المدن العربية المبتلية بما فيه نحن مبتلون، فهذا يعني أن المخيلة العربية العريقة دخلت في سبات طويل، فزوال الضمير الذي كان “جحا” يشكله بشكل ما أيضا، يؤذن بما هو أكثر سوءاً، لكننا بانتظارها، بانتظار “جحا”، فوجودها يعني أننا ما زلنا بخير، رغم كل هذي الخطوب والرزايا.
تمّام علي بركات